﴿ألم يأتكم﴾ أيها الناس ولا سيما الكفار ﴿نبأ﴾ أي : خبر ﴿الذين كفروا من قبل﴾ كقوم نوح وهود وصالح ﴿فذاقوا﴾ أي : باشروا مباشرة الذائق ﴿وبال أمرهم﴾ أي : ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل : المطر الثقيل القطر ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم في البرزخ ثم يوم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم.
﴿ذلك﴾ أي : الأمر العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق ﴿بأنه﴾ أي : بسبب أن الشان العظيم البالغ في الفظاعة ﴿كانت تأتيهم﴾ على عادة مستمرة ﴿رسلهم﴾ أي : رسل الله الذين أرسلهم إليهم ﴿بالبينات﴾ أي : الحجج الظاهرات على الإيمان ﴿فقالوا﴾ أي : الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً، وقولهم :﴿أبشر يهدوننا﴾ يجوز أن يرتفع بشر على الفاعلية ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح لأن الأداة تطلب الفعل، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبر، وجمع الضمير في يهدوننا ؛ إذ البشر اسم جنس، وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى :﴿ما هذا بشراً﴾ (يوسف : ٣١)
فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم ﴿فكفروا﴾ أي : بهذا القول ؛ إذ قالوه استصغاراً ولم
٣٢٥
يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده ﴿وتولوا﴾ عن الإيمان.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿فكفروا﴾ تعميم يفهم منه التولي فما الحاجة إلى ذكره ؟
أجيب : بأنهم كفروا وقالوا :﴿أبشر يهدوننا﴾ وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي، فلهذا قال :﴿فكفروا وتولوا﴾، وقيل : كفروا بالرسل وتولوا بالبرهان، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٥
ونبه بقوله تعالى :﴿واستغنى الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه على أن هذا إنما هو لمصالح الخلق فهو غني عن كل شيء.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿وتولوا واستغنى الله﴾ يوهم وجود التولي والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنياً ؟
أجيب : بأن معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك ﴿والله﴾ أي : المستجمع الصفات الكمال ﴿غني﴾ عن خلقه ﴿حميد﴾ أي : محمود في أفعاله.
﴿زعم الذين كفروا﴾ أي : أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى، ولو على أدنى الوجوب. وزعم قال ابن عربي : كنية الكذب، وقال الزمخشري : الزعم ادعاء العلم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"زعموا مطية الكذب" وعن شريح : لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود :"بئس مطية الرجال زعموا" ﴿أن لن يبعثوا﴾ أي : من أي باعث ما بوجه من الوجوه ﴿قل﴾ أي : يا أشرف الرسل لهؤلاء البعداء ﴿بلى﴾ أي : لتبعثن ثم أكد بصريح القسم فقال :﴿وربي﴾ أي : المحسن إلي بالانتقام ممن كذب بي ﴿لتبعثنّ﴾ أي : بأهون شيء وأيسر أمر ﴿ثم لتنبؤن﴾ أي : تخبرنّ إخباراً عظيماً ممن يقيمه الله تعالى لإخباركم ﴿بما عملتم﴾ أي : بأعمالكم لتجزون عليها ﴿وذلك﴾ أي : الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب ﴿على الله﴾ أي : المحيط بصفات الكمال وحده ﴿يسير﴾ إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
فإن قيل : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث، وهم قد أنكروا الرسالة ؟
أجيب : بأنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون الإخبار عنده صدقاً أظهر من الشمس في اعتقاده، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسماً بعد قسم.
ثم إن الله تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال تعالى :
﴿فآمنوا بالله﴾ أي : الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿ورسوله﴾ أي : كل من أرسله ولا سيما محمداً ﷺ ﴿والنور﴾ أي : القرآن ﴿الذي أنزلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلالة كما يهتدى بالنور في الظلمات.
فإن قيل : هلا قيل : ونوره، بالإضافة كما قال : ورسوله ؟
أجيب بأن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة فكأنه قال : ورسوله ونوره ﴿والله﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿بما تعملون خبير﴾
٣٢٦
أي : بالغ العلم بما تسرون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٥
وقوله تعالى :﴿يوم يجمعكم﴾ منصوب بقوله تعالى :﴿لتنبئون﴾ عند النحاس و﴿بخبير﴾ عند الحوفي لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم، وباذكر مضمراً عند الزمخشري فيكون مفعولاً به، أو بما دلّ عليه الكلام، أي : تتفاوتون يوم يجمعكم ؛ قاله أبو البقاء ﴿ليوم الجمع﴾ أي : لأجل ما يقع في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض.


الصفحة التالية
Icon