وقيل : يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل : يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، وقيل : يجمع فيه بين كل نبي وأمّته، وقيل : يجمع فيه ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي، بل هو جامع لجميع ما ذكر ﴿ذلك﴾ أي : اليوم العظيم ﴿يوم التغابن﴾ والتغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء ؛ لأن نزولهم ليس بغبن. ولهذا قيل : التفاعل هنا من واحد لا من اثنين، وفي الحديث "ما من عبد أدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرةً" وهو معنى ﴿ذلك يوم التغابن﴾ وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظاماً له وإن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.
وذكر في بعض التفاسير أن التغابن هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه ليرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله فيدخل الأول النار والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغبن البين، والمغابن ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين، والمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وبصنيعه في الآثام.
قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه. فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟
أجيب : بأنه تمثيل للغبن في الشراء والبيع كقوله تعالى :﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم﴾ (البقرة : ١٦)
فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، ذكر أيضاً أنهم غبنوا وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٥
وقد فرق الله تعالى الخلق فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للنار، وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف : رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ولم يعمل فيه خيراً، وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد فعمل ذلك العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي. وروى القرطبي عن النبي ﷺ أنه قال :"إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولاً : ما أنتما قائلان ؟
فيقول الرجل : يا رب أوجبت نفقتها علي فنفقتها من حرام ومن حلال، وهؤلاء
٣٢٧
الخصوم يطلبون ذلك، ولم يبق لي ما أوفي، فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراماً وأكلته حلالاً، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعداً له وسحقاً، فيقول الله تعالى : قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له : غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به، فذلك يوم التغابن".
وقال بعض علماء الصوفية : إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال ﷺ "لا يلقى الله أحد إلا نادماً إن كان مسيئاً إن لم يحسن، وإن كان محسناً إن لم يزدد".
تنبيه :: استدل بعض العلماء بقوله تعالى :﴿ذلك يوم التغابن﴾ أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى :﴿ذلك يوم التغابن﴾ وهذا الاختصاص يفيد أن لاغبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله ﷺ لحسان بن سعد :"إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثاً" ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٥