والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبداً ﴿ومن يؤمن﴾ أي : يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار ﴿بالله﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له ﴿ويعمل﴾ تصديقاً لإيمانه ﴿صالحاً﴾ أي : عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار ﴿يكفر عنه سيئاته﴾ التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء، والرهبة والرغبة، والنذارة والبشارة ﴿ويدخله﴾ أي : رحمة له وإكراماً وفضلاً ﴿جنات﴾ أي : بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى :﴿تجري من تحتها﴾ أي : من تحت قصورها وأشجارها ﴿الأنهار﴾ وقرأ نكفر عنه وندخله، نافع وابن عامر بالنون فيهما، أي : نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية، أي : الله الواحد القهار ﴿خالدين﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿فيها﴾ وأكده بقوله :﴿أبداً﴾ فلا خروج لهم منها ﴿ذلك﴾ أي : الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام ﴿الفوز العظيم﴾ لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم.
٣٢٨
ولما ذكر تعالى الفائز بلزومه التقوى ترغيباً اتبعه بضده ترهيباً فقال عز من قائل :﴿والذين كفروا﴾ أي : غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظلام ﴿وكذبوا﴾ أي : أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب ﴿بآياتنا﴾ أي : بسببها مع مالها من العظمة بإضافتها إلينا وهي القرآن فلم يعملوا به ﴿أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿أصحاب النار خالدين﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿فيها وبئس المصير﴾ هي، قال الرازي : فإن قيل : قال تعالى في حق المؤمنين ﴿ومن يؤمن بالله﴾ بلفظ المستقبل، وفي الكفار قال :﴿والذين كفروا﴾ بلفظ الماضي.
فالجواب : أن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن قيل : قال تعالى :﴿يؤمن﴾ بلفظ الوحدان و﴿خالدين فيها﴾ بلفظ الجمع. أجيب : بأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿وبئس المصير﴾ بعد قوله تعالى :﴿خالدين فيها﴾ وذلك بئس المصير ؟
أجيب : بأن ذلك وإن كان في معناه فهو تصريح بما يؤكده كما في قوله :﴿أبداً﴾.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٥
ما أصاب﴾
أحداً ﴿من مصيبة﴾ أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية في نفس أو مال أو قول أو فعل تقتضي هماً، أو توجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً ﴿إلا بإذن الله﴾ أي : بتقدير الملك الأعظم. وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله. وقيل : إلا بعلم الله، وقيل : سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة إلا بقضائه وقدره.
فإن قيل : بم يتصل قوله تعالى :﴿ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله﴾ ؟
أجيب : بأنه يتعلق بقوله تعالى :﴿فآمنوا بالله ورسوله﴾.
﴿ومن يؤمن بالله﴾ يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بقضاء الله الملك الأعظم وتقديره وإذنه ﴿يهد قلبه﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن يجعل في قلبه اليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أي : فيسلم لقضاء الله وقدره. وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر.
وقيل : يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة، وقيل : يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الحيري : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل : يهد قلبه عند المصيبة فيقول : إنا لله وإنا
٣٢٩
إليه راجعون، قاله ابن جبير. ﴿والله﴾ أي : الملك الذي لا نظير له ﴿بكل شيء﴾ مطلقاً من غير استثناء ﴿عليم﴾ فلا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره، فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح عنه كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة.
﴿وأطيعوا الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الأمر كله ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي : هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله تعالى، واعملوا بكتابه وأطيعوا الرسول في العمل بسنته ﴿فإن توليتم﴾ أي : عن الطاعة ﴿فإنما على رسولنا﴾ أضافه إليه على وجه الكمال تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه ﴿البلاغ المبين﴾ أي : الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاح، ولم يدع لبساً، وليس إليه خلق الهداية في القلوب.


الصفحة التالية
Icon