وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء التحتية، والباقون بكسرها ﴿وتلك﴾ أي : الأحكام العالية جداً لما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيرها ﴿حدود الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ومن يتعد﴾ أي : يقع منه في وقت من الأوقات أنه تعمد أن يعدو ﴿حدود الله﴾ أي : الملك الذي لا كفء له أو بعضها كأن طلق بدعياً ﴿فقد ظلم نفسه﴾ أي : عرضها للعقاب.
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الظاء، والباقون بالإدغام ﴿لا تدري﴾ أي : نفس، أو أنت أيها النبي، أو المطلق ﴿لعل الله﴾ أي : الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور ﴿يحدث﴾ أي : يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا تقدر الخلق على التسبب في زواله ﴿بعد ذلك﴾ أي : الحادث من الإساءة والبغض ﴿أمراً﴾ بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها.
وقال أكثر المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، ومعنى الكلام التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، وهذا أحسن الطلاق وأحله في السنة وأبعده عن الندم..
٣٣٧
ويدل عليه ما روي عن ابراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يستحبون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما مفرقاً في الأطهار فلا لما روي عن النبي ﷺ أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض :"ما هكذا أمر الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة" وروي أنه قال لعمر :"مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها تحيض، ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وهو مباح. ومالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٥
قال الزمخشري : فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة ؟
قلت : نعم وهو آثم لما روي عن النبي ﷺ "أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه فقال : أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم" وفي حديث ابن عمر أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً فقال له : قال :"إذاً عصيت وبانت منك امرأتك".
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان لايؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً، وأجاز ذلك عليه. وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿إذا طلقتم النساء﴾ عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن ؟
أجيب : بأنه لا عموم ثم ولا خصوص، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذلك، فلما قيل :﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض.
ولما حدّ سبحانه مايفعل في العدة أتبعه مايفعل عند انقضائها بقوله تعالى :﴿فإذا بلغن﴾ أي : المطلقات ﴿أجلهن﴾ أي : شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة ﴿فأمسكوهن﴾ أي : بالمراجعة وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق مادون البائن لا سيما الثلاث ﴿بمعروف﴾ أي : حسن عشرة لا لقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاد عدة أخرى، أو غير ذلك. ﴿أو فارقوهن﴾ بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها ﴿بمعروف﴾ أي : بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر حسنه الشرع، فلا يقصد أذاها بتفريقها عن ولدها مثلاً، أو عنه إن كانت عاشقة له لقصد الأذى فقط من
٣٣٨
غير مصلحة، وكذلك ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل والقول فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات.
تنبيه : قال بعض العلماء في قوله تعالى :﴿فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف﴾ وقوله تعالى :﴿فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان﴾ (البقرة : ٢٢٩)
إن : الزوج له حق في بدن الزوجة ولها حق في بدنه وذمته فكل من له دين في ذمة غيره سواء أكان مالاً، أو منفعة من ثمن أو مثمن أو أجرة، أو بدل متلف، أو ضمان مغصوب، أو نحو ذلك فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص :﴿فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان﴾ (البقرة : ١٧٨)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٥