وكذا الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك، فالطالب يطلب بمعروف والمؤدي يؤدي بإحسان.
ولما كان الإشهاد أقطع للنزاع قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة :﴿وأشهدوا﴾ أي : على الرجعة والمفارقة، وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً ﴿ذوي عدل منكم﴾ قطعاً للنزاع، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند الجمهور كقوله تعالى :﴿وأشهدوا إذا تبايعتم﴾ (البقرة : ٢٨٢)
وأوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الأخر : إن الرجعة لاتفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.
وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة فليس بمراجع، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة فهو رجعة، وكذا النظر إلى الفرج رجعة، وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة فهي رجعة، وقيل : وطؤه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية. قال القرطبي : وكان مالك يقول : إذا وطىء ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليست له الرجعة في هذا الاستبراء.
تنبيه : قوله تعالى :﴿منكم﴾ قال الحسن : من المسلمين، وعن قتادة : من أحراركم، وذلك يوجد اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث لأن ذوى للمذكر. وقوله تعالى :﴿وأقيموا﴾ أي : أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً ﴿الشهادة﴾ التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها ﴿لله﴾ أي : مخلصين لوجه الملك الأعلى لا لأجل المشهود له والمشهود عليه، ولا شيء سوى وجه الله تعالى.
وفيه حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشاهد بترك مهماته وعسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً ﴿ذلكم﴾ أي : الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام، وأولاها بذلك هذا الإشهاد وإقامة الشهادة ﴿يوعظ﴾ أي : يلين ويرقق ﴿به من كان﴾ أي : كوناً راسخاً من جميع الناس﴿يؤمن بالله﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿واليوم الآخر﴾ فإنه المحط الأعظم للترقيق، وأما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ماوعظ به لأنه لم ينتفع به.
وقوله تعالى :﴿ومن يتق الله﴾ أي : يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية بما يرضية، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهي عنه من الطلاق وغيره، ظاهراً وباطناً لأن
٣٣٩
التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي، وإن اقترنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي ﴿يجعل﴾ أي : بسبب التقوى ﴿له مخرجاً ﴾ جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على اتقائه عما نهى عنه صريحاً أو ضمناً من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن، وتعدى حدود الله تعالى. روي أن النبي ﷺ "سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج فتلاها" وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والثعلبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة، أي : من طلق كما أمره الله تعالى يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٥
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً : يجعل له مخرجاً ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه، قاله علي بن صالح. وقال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، وقال الحسن : مخرجاً مما نهى الله عنه، وقال أبو العالية : مخرجاً من كل شدة، وقال الربيع بن خيثم : مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس، وقال الحسين بن الفضل : ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة.
﴿ويرزقه﴾ أي : الثواب ﴿من حيث لا يحتسب﴾ أي : يبارك له فيما أتاه، وقال سهل بن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله تعالى يجعل له مخرجاً مما كلفه الله بالمعونة له، وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم، وهذا هو الذي يقوى عندي.
وقال أبو ذر :"قال النبي ﷺ إني لأعلم آيه لو أخذ الناس بها لكفتهم، وتلا :﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾ قال : مخرجاً من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة".


الصفحة التالية
Icon