وقال أكثر المفسرين : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً فأتى رسول الله ﷺ يشتكي إليه الفاقة، وقال : إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني ؟
فقال ﷺ "اتقي الله واصبر، وآمرك وإياها أن تكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله ﷺ أمرني وإياك أن نكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالت : نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى المدينة وهي أربعة آلاف شاة فنزلت الآية، وجعل النبي ﷺ تلك الأغنام له" وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو، وكان فقيراً. فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيراً، وفي رواية فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة لقوم فمر بسرح لهم فاستاقه، وقال مقاتل : أصاب غنماً ومتاعاً، فقال أبوه للنبي ﷺ أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني قال : نعم ونزل ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾ وروى الحسن عن عمران بن
٣٤٠
حصين قال : قال رسول الله ﷺ "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٥
وقال الزجاج : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة، ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن النبي ﷺ قال :"من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب".
﴿ومن يتوكل﴾ أي : يسند أموره كلها معتمداً فيها ﴿على الله﴾ أي : الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له ﴿فهو﴾ أي : الله في غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله ﴿حسبه﴾ أي : كافيه ما أهمه، وحذف المتعلق للتعميم، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه.
وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل، وفي الحديث :"لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه ﷺ قال : تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة. قال البقاعي نقلاً عن المولوي : وإلا كان اتكالاً، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة ؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب. ا. ه.
ولما كان ذلك أمراً إلا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار :﴿إن الله﴾ أي : المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص ﴿بالغ أمره﴾ أي : جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا، قال مسروق : يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً. وقرأ حفص : بالغ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف، والباقون بالتنوين، وأمره بنصب الراء وضم الهاء. قال ابن عادل : وهو الأصل خلافاً لأبي حيان ﴿قد جعل الله﴾ أي : الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقييد بجهة ولا حيثية ﴿لكل شيء﴾ كرخاء وشدة ﴿قدراً﴾ أي : تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه. فمن توكل استفاد الأجر، وخفف عنه الألم، وقذف في قلبه السكينة، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية. فمن رضي فله
٣٤١
الرضا، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء، ولا ينقص منها شيء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٥
ويحكى أن رجلاً أتى عمر فقال : أولني مما أولاك الله، فقال : أتقرأ القرآن، قال : لا، قال : إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال : يا هذا أهجرتنا ؟
فقال : يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر، قال : فأي آية أغنتك قال : قوله تعالى :﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً﴾ فمن توكل على غيره سبحانه ضاع، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره.