﴿يجعل له﴾ أي : يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى، إن الله لا يمل حتى تملوا ﴿من أمره﴾ أي : كله في النكاح وغيره ﴿يسراً﴾ أي : سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى، وقال مقاتل : ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه لطاعته.
﴿ذلك﴾ أي : الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب ﴿أمر الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الكمال كله ﴿أنزله إليكم﴾ وبينه لكم ﴿ومن يتق الله﴾ أي : الذي لا أمر لأحدٍ معه في أحكامه فيراعي حقوقها ﴿يكفر﴾ أي : يغط تغطية عظيمة ﴿عنه سيئاته﴾ ليتخلى عن المبعدات، فإن الحسنات يذهبن السيئات ﴿ويعظم له أجراً﴾ بأن يبدل سيئاته حسنات، ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفة فيتحلى بالقربات، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤٢
أسكنوهن﴾ وقال الرازي : أسكنوهن وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى :﴿ومن يتق الله﴾ كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات ؟
فقيل : أسكنوهن.
وقوله تعالى :﴿من حيث سكنتم﴾ فيه وجهان : أحدهما : أن من للتبعيض، قال الزمخشري : مبعضها محذوف، معناه : أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم، أي : بعض مكان سكناكم كقوله تعالى :﴿يغضوا من أبصارهم﴾ (النور : ٣٠)
أي : بعض أبصارهم. قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال الرازي : وقال الكسائي : من صلة، والمعنى : اسكنوهن حيث سكنتم. والثاني : أنها لابتداء الغاية، قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء : والمعنى : تسببوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم، ودل عليه قوله تعالى :﴿من وجدكم﴾ أي : من وسعكم، أي : ما تطيقونه وفي إعرابه وجهان : أحدهما : أنه عطف بيان لقوله تعالى :﴿من حيث سكنتم﴾ وإليه ذهب الزمخشري وتبعه البيضاوي. قال ابن عادل : أظهرهما أنه بدل من قوله ﴿من حيث﴾ بتكرار العامل، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل : أسكنوهن من وسعكم.
﴿ولا تضاروهن﴾ أي : حال السكنى في المساكن ولا في غيره ﴿لتضيقوا عليهن﴾ حتى تلجؤهن إلى الخروج ﴿وإن كن﴾ أي : المطلقات ﴿أولات حمل﴾ أي : من الأزواج من طلاق بائن أو رجعي ﴿فأنفقوا عليهن﴾ وإن مضت الأشهر﴿حتى يضعن حملهن﴾ فيخرجن من العدة، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات البوائن والأحاديث تؤيده.
قال القرطبي : اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال : فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت :"دخلت إلى رسول الله ﷺ ومعي أخو زوجي، فقلت : إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة، قال : بل لك السكنى والنفقة، فقال : إن زوجها طلقها ثلاثاً فقال ﷺ إنما السكنى والنفقة لمن له عليها رجعة" فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك فإن أصحاب عبد الله يقولون :
٣٤٤
إن لها السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال : لقيني الأسود بن يزيد فقال : يا شعبي اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، فقلت : لا أرجع عن شيء. حدثتني فاطمة بنت قيس عن رسول الله ﷺ ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي ﷺ أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤٢
وأجيب عن ذلك : بما روت عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على إحمائها، وقال قتادة وابن أبي ليلى : لا سكن إلا للرجعية لقوله تعالى :﴿لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً﴾ (الطلاق : ١)
وقوله تعالى :﴿أسكنوهن﴾ راجع لما قبله وهي المطلقة الرجعية ﴿فإن أرضعن لكم﴾ أي : بعد انقضاء علقة النكاح ﴿فآتوهن أجورهن﴾ أي : على ذلك الإرضاع وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم تبن، ويجوز عند الشافعي مطلقاً وقوله تعالى :﴿وائتمروا﴾ خطاب للأزواج والزوجات، أي : ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك، وليقبل بعضكم أمر بعض.
وقال الكسائي : ائتمروا تشاوروا، وتلا قوله تعالى :﴿إن الملأ يأتمرون بك﴾ (القصص : ٢٠)
وأنشد قول امرىء القيس :
*ويعدو على المرء ما يأتمر