وزادهم رغبة في ذلك بقوله تعالى :﴿بينكم﴾ أي : إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله تعالى :﴿بمعروف﴾ ونكره سبحانه تخفيفاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الأخلاق بالاتصاف، ومع النفس بالخلاف ﴿وإن تعاسرتم﴾ أي : طلب كل منكم ما يعسر على الآخر، كأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً ﴿فسترضع له﴾ أي : الأب ﴿أخرى﴾ أي : مرضعة غير الأم ويغني الله تعالى عنها، وليس له أن يكرهها على ذلك، نعم إذا لم يقبل ثدي غيرها أو لم يوجد غيرها أجبرت على ذلك بالأجرة، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك.
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد، فقال مالك : رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه حينئذٍ في ماله، وقال أبو حنيفة : لا يجب على الأم بحال، وقيل : يجب عليها بكل حال. ولو طلبت الأم أجرة المثل وهناك أجنبية ترضع بدون أجرة المثل، أو متبرعة تخير الأب بينهما ولا يضيق على الأب بدفع الأجرة لأنه ﷺ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً أو قطيعة رحم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي
٣٤٥
بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.
﴿لينفق ذو سعة﴾ أي : مال واسع ولم يكلفه تعالى جميع وسعه بل قال تعالى :﴿من سعته﴾ أي : لينفق الزوج على زوجته وولده الصغير على قدر وسعه إذا كان موسعاً عليه ﴿ومن قدر﴾ أي : ضيق ﴿عليه رزقه﴾ فعلى قدر ذلك فيقدر النفقة بحسب حال المنفق، والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة. قال تعالى :﴿وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ (البقرة : ٢٣٣)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤٢
وقال ﷺ لهند :"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" لكن نفقة الزوجة مقدرة عند الشافعي محدودة فلا اجتهاد للحاكم ولا للمفتي فيها، وتقديرها هو بحسب حال الزوج وحده من يسار وإعسار، ولا اعتبار بحالها فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فيلزم الزوج الموسر مدان، والمتوسط مد ونصف، والمعسر مد لظاهر قوله تعالى :﴿لينفق ذو سعة من سعته﴾ فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر، ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها فقدرت قطعاً للخصومة.
وقوله تعالى :﴿فلينفق﴾ أي : وجوباً على المرضع وغيرها من كل ما أوجبه الله تعالى عليه. ﴿مما آتاه الله﴾ أي : الملك الذي لا ينفد ما عنده، ولو من رأس المال ومتاع البيت ﴿لا يكلف الله﴾ أي : الذي له الملك كله ﴿نفساً﴾ أيّ نفس كانت.
﴿إلا ما آتاها﴾ أي : أعطاها من المال ﴿سيجعل الله﴾ أي : الملك الذي له الكمال كله فلا خلف لوعده.
﴿بعد عسر﴾ أي : بعد كل عسر ﴿يسراً﴾ وقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين بعد نزول الآية ففتح عليهم جميع جزيرة العرب، ثم فارس والروم حتى صاروا أغنى الناس وصدق الآية دائم غير أنه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم آمين لأن إيمانهم أتم. قال القشيري : وانتظار اليسر من الله صفة المتوسطين في الأحوال الذين انحطوا عن درجة الرضا، وارتقوا عن حد اليأس والقنوط، ويعيشون في إفناء الرجال، ويتعللون بحسن المواعيد ا. ه.
ولما ذكر الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع حذر من خالف بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤٢
﴿وكأين﴾ هي كاف الجر دخلت على أيّ بمعنى : كم ﴿من قرية﴾ أي : وكثير من القرى. وقرأ ابن كثير بالألف بعد الكاف وبعد الألف همزة مكسورة وقفاً ووصلاً، وقرأ الباقون في الوصل بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعد الهاء ياء تحتية مكسورة مشددة، وعبر عن أهل القرية بها مبالغة فقال :﴿عتت﴾ أي : استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عناداً ﴿عن أمر ربها﴾ أي : الذي أحسن إليها ولا يحسن إليها غيره ﴿ورسله﴾ فلم تقبل منهم ما جاؤوا به عن الله تعالى، فإن طاعتهم من طاعته ﴿فحاسبناها﴾ أي : في الآخرة وإن لم تجيء لتحقق وقوعها ﴿حساباً شديداً﴾ أي : بالمناقشة والاستقصاء ﴿وعذبناها عذاباً نكراً﴾ أي : منكراً فظيعاً، وهو عذاب النار، وقيل : العذاب في الدنيا فيكون على حقيقته، أي : جازيناها بالعذاب في الدنيا، وعذبناها عذاباً نكراً في الآخرة، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير، أي : فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط، والسيف،
٣٤٦
والخسف والمسخ، وسائر المصائب، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة. وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبه بضم الكاف، والباقون بسكونها.
﴿فذاقت﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنها ذاقت ﴿وبال﴾ أي : عقوبة ﴿أمرها﴾ أي : كفرها.
﴿وكان عاقبة أمرها خسراً﴾ أي : في الدنيا بالأسر وضرب الجزية، وغير ذلك، وفي الآخرة بعذاب النار، فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد، ومن أضاع حق الله تعالى لا يطاع في حظ نفسه، ومن احترف بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على عقوبته.