ثم بين تعالى الخيرية بقوله تعالى :﴿مسلمات﴾ إلى أخره، وهو إما نعت، أو حال، أو منصوب على الاختصاص. قال سعيد بن جبير : مسلمات يعني مخلصات، وقيل : مسلمات لأمر الله عز وجل وأمر رسول الله خاضعات لله تعالى بالطاعات ﴿مؤمنات﴾ أي : مصدقات بتوحيد الله تعالى، وقيل : مصدقات بما أمرن به ونهين عنه، وقيل : مسلمات مقرات بالإسلام مؤمنات مخلصات ﴿قانتات﴾ أي : مطيعات والقنوت الطاعة، وقيل : داعيات ﴿تائبات﴾ أي : راجعات من الهفوات والزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك، وقيل : راجعات إلى أمر رسول الله ﷺ تاركات لمحاب أنفسهن ﴿عابدات﴾ أي : كثيرات العبادات لله تعالى، وقال ابن عباس : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد ﴿سائحات﴾ قال ابن عباس : صائمات، وقال الحسن : مهاجرات، وقال ابن زيد : وليس في أمة محمد ﷺ سياحة إلا الهجرة، والسياحة الجولان في الأرض، وقال الفراء وغيره : سمي الصائم سائحاً لأن السائح لازاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى. من ساح الماء إذا ذهب ﴿ثيبات﴾ جمع ثيب، وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه، أو زالت بكارتها بوطء من غير نكاح ﴿وأبكاراً﴾ أي : عذارى جمع بكر، وهي ضد الثيب، وسميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت بها وقدم الثيبات لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها، ووسط الواو بين الثيبات والأبكار لتنافي الوصفين دون سائر الصفات.
فإن قيل : كيف ذكر الثيبات في مقام المدح وهن من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن ؟
أجيب : بأنه يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً من كثير من الأبكار لاختصاصهن بالمال والجمال.
ولما بالغ سبحانه في عتاب نساء النبي ﷺ مع صيانتهن عن التشبه إكراماً له ﷺ أتبع ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة فقال تعالى متبعاً لهن بالموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب.
﴿يا أيها الذين أمنوا﴾ أي : أقروا بذلك ﴿قوا أنفسكم﴾ أي : اجعلوا لها وقاية بالتأسي به ﷺ وترك المعاصي وفعل الطاعات، وفي أدبه مع الخلق والخالق ﴿وأهليكم﴾ من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم ﴿ناراً﴾ بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي ﷺ كما روى الطبراني عن سعيد بن العاص :"ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن" وفي الحديث :"رحم الله رجلاً قال : يا
٣٥٩
أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معهم في الجنة" وقيل : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله، وقال ﷺ "رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله، فإن لم تقم رش على وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها، فإن لم يقم رشت على وجهه من الماء" وقال بعض العلماء : لما قال ﴿قوا أنفسكم﴾ دخل فيه الأولاد لأن الولد بعض منه، كما دخلوا في قوله تعالى :﴿ولا عل أنفسكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم﴾ (النور : ٦١) وقوله عليه الصلاة والسلام :"إن أحل ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه" فلم يفرد بالذكر أفراد سائر القرابات فيعلمه الحلال والحرام. وقال عليه الصلاة والسلام :"حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه اذا بلغ".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٥٨
ثم بين تعالى وصف تلك النار بقوله عز وجل :﴿وقودها﴾ أي : الذي توقد به ﴿الناس﴾ أي : الكفار ﴿والحجارة﴾ كأصنامهم منها، وعن ابن عباس أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها، والمعنى أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه ﴿عليها ملائكة﴾ خزنتها عدتهم تسعة عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المدثر ﴿غلاظ﴾ أي : غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني أدم أكل الطعام والشراب ﴿شداد﴾ أي : شداد الأبدان، وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال يدفع واحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً في النار، لم يخلق الله فيهم الرحمة، وقيل : في أخذهم أهل النار شداد عليهم، يقال : فلان شديد على فلان، أي : قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.


الصفحة التالية
Icon