﴿يا أيها النبي جاهد الكفار﴾ أي : بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك ﴿والمنافقين﴾، أي : جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين، وقال الحسن : وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم ﴿واغلظ عليهم﴾، بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها ﴿ومأواهم﴾ أي : في الآخرة ﴿جهنم وبئس المصير﴾، أي : هي. ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلاً، وبدأ بالأول فقال تعالى :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦١
ضرب الله﴾، أي : الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿مثلاً﴾ يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ ﴿للذين كفروا﴾، أي : غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم وقوله تعالى :﴿امرأت نوح﴾ عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالغرق ﴿وامرأت لوط﴾ عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالحصب والخسف، يجوز أن يكون بدلاً من قوله :﴿مثلاً﴾ على تقدير حذف المضاف، أي : ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح وامرأة لوط، ويجوز أن يكونا مفعولين، وضرب الله تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب ولا نسيب في الآخرة إذا فرق بينهما الدين.
٣٦٣
قال مقاتل : وكان اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة، وقال الضحاك : عن عائشة :"إن جبريل عليه السلام نزل على النبي ﷺ فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة واسم امرأة لوط والهة".
تنبيه : رسمت امرأت في الثلاثة وابنت بالتاء المجرورة، فوقف عليهنّ بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ووقف الباقون بالتاء. وقوله تعالى :﴿كانتا﴾ أي : مع كونهما كافرتين ﴿تحت عبدين﴾ جملة مستأنفة كأنها مفسرة لضرب المثل، ولم يأت بضميرها فيقال : تحتهما، أي : تحت نوح ولوط لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة قال القائل :
*لا تدعنى إلا بيا عبدها ** فإنه أشرف أسمائي*
ودلّ على كثرة عبيده تنبيها على غناه بقوله تعالى :﴿من عبادنا﴾ ووصفهما بأجل الصفات وهو قوله تعالى :﴿صالحين﴾ واختلف في معنى قوله تبارك وتعالى :﴿فخانتاهما﴾ فقال عكرمة والضحاك : بالكفر.
وعن ابن عباس : كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه، وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبيّ قط وإنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين، وقيل : كانتا منافقتين، وقيل : خيانتهما النميمة إذا أوحي إليهما شيء أفشتاه إلى المشركين ؛ قاله الضحاك، وقيل : كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال ﴿فلم﴾ أي : فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم ﴿يغنيا عنهما﴾، أي : المرأتين بحق النكاح ﴿من الله﴾، أي : من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره ﴿شيئاً﴾ أي : من إغناء لأجل خيانتهما ﴿وقيل﴾ أي : للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مردّ له ﴿ادخلا النار﴾، أي : قيل لهما ذلك عند موتهما أو يوم القيامة ﴿مع الداخلين﴾، أي : سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من عذاب الله تعالى وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أعلى وجه وأشده وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة وقيل : أن كفار مكة استهزؤا وقالوا : إن محمداً يشفع لنا فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا ينفع نوح امرأته ولا لوط امرأته مع قربهما لهما لكفرهما.
ثم شرع تعالى في ضرب المثل الثاني : فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦١