﴿وضرب الله﴾، أي : الملك الأعلى الذي له صفات الكمال ﴿مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون﴾ واسمها آسية وهي بنت مزاحم آمنت وعملت صالحاً فلم تضرّها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل، ولا نفعه إيمانها، كل امرئ بما كسب رهين وأثابها ربها تعالى أن جعلها في الآخرة زوجة خير خلقه محمد ﷺ في دار كرامته بصبرها على عبادة الله تعالى وهي في حبالة عدوّه وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته له لأنه من أعدى أعدائه وقوله تعالى :﴿إذ قالت﴾ ظرف للمثل المحذوف، أي : مثلهم مثلها حين قالت ﴿رب﴾، أي : أيها المحسن إلي بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار ﴿ابن لي عندك بيتاً﴾وبينت مرادها بالعندية فقالت :﴿في الجنة﴾ أي : دار المقربين وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة أكمل خلقه محمد ﷺ فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل
٣٦٤
﴿ونجني من فرعون﴾ أي : فلا أكون عنده ﴿وعمله﴾فلا تسلطه علي بما يضرني عندك في الآخرة فلا أعمل بشيء من عمله وهو شركه، وقال ابن عباس : جماعه ﴿ونجني﴾ أعادت العامل تأكيداً ﴿من القوم الظالمين﴾ أي : الناس الأقوياء العريقين الذين يضعون أعمالهم في غير موضعها، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها للمحبوب، وهو كليم الله موسى عليه السلام كما يقال :
*صديق صديقي داخل في صداقتي
وذلك أن موسى عليه السلام لما غلب السحرة آمنت به فلما تبين لفرعون إيمانها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفي القصة أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت :﴿رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة﴾ فأبصرته من مرمرة بيضاء فانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألماً، وقال الحسن وابن كيسان : رفع الله تعالى امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٤
وقوله تعالى :﴿ومريم ابنت عمران﴾ عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل ﴿التي أحصنت فرجها﴾ أي : عفت عن السوء وجميع مقدماته، كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على حالها إلى الممات فزوجها الله تعالى في الجنة جزاء لها بخير خلقه محمد ﷺ وقال بعض المفسرين : أراد بالفرج هنا الجيب لقوله تعالى :﴿فنفخنا﴾، أي : بمالنا من العظمة بواسطة ملكنا جبريل عليه السلام ﴿فيه﴾، أي : في جيب درعها. قال البقاعي : أو في فرجها الحقيقي، وعلى هذا فلا حاجة إلى التأويل ﴿من روحنا﴾، أي : من روح خلقناه بلا تواسط أصل وهو روح عيسى عليه السلام ﴿وصدقت بكلمات ربها﴾، أي : المحسن إليها واختلف في تلك الكلمات فقال : مقاتل يعني بالكلمات عيسى وأنه نبىّ وعيسى كلمة الله وقال البغوي : يعني الشرائع التي شرعها الله تعالى للعباد بكلماته المنزلة وقيل : هي قول جبريل عليه السلام لها ﴿إنما أنا رسول ربك﴾ (مريم : ١٩) الآية، وعلى كل قول استحقت أن تسمى لذلك صديقة، وقرأ :﴿وكتبه﴾ أبو عمرو وحفص بضم الكاف والتاء جمعاً، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء وبعدها ألف إفراداً والمراد منه الكثرة فالمراد به الجنس فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى على ولدها أو غيره.
وقوله تعالى :﴿وكانت من القانتين﴾ يجوز في ﴿مَن﴾ وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية.
والثاني : أنها للتبعيض. وقد ذكرهما الزمخشري فقال : فمن للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما وعليها وعلى سائر الأنبياء وآلهم أجمعين.
قال الزمخشري : فإن قلت لم قيل : من القانتين على التذكير ؟
قلت : لأن القنوت صفه تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه. وقيل : أراد من القوم القانتين، ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت : الطاعة، وقال عطاء : من المصلين بين المغرب والعشاء. وعن معاذ بن جبل : إنّ النبي ﷺ قال لخديجة وهي تجود بنفسها :"إذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منى السلام مريم بنت عمران وآسية بنت
٣٦٥
مزاحم" وعن أنس عن النبي ﷺ أنه قال :"كمل من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري :"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً" حديث موضوع.
٣٦٦
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٤