فإن قيل : الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق الله تعالى العالم بجميع الأشياء محال. أجيب : بأن الابتلاء من الله تعالى هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر كما مرّت الإشارة إليه.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٧
وهو﴾
أي : والحال أنه وحده ﴿العزيز﴾ أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿الغفور﴾ أي : الذي مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما قال تعالى في الحديث القدسي :"ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".
وقوله تعالى :﴿الذي خلق﴾، أي : أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق ﴿سبع سموات﴾ يجوز أن يكون تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً، وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ محذوف أو مفعول فعل مقدر. وقوله تعالى :﴿طباقاً﴾ صفة لسبع وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه جمع طبق نحو جبل وجبال. والثاني : أنه جمع طبقة نحو : رحبة ورحاب، والثالث : أنه مصدر طابق، يقال : طابق مطابقة وطباقاً. ثم إما أن يجعل نفس المصدر مبالغة وإما على حذف مضاف، أي : ذات طباق وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي : طوبقت طباقاً من قولهم : طابق النعل، أي : جعله طبقة فوق طبقة أخرى. وروي عن ابن عباس : طباقاً أي : بعضها فوق بعض، قال البقاعي : بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك قال : وهي لا تكون كذلك إلا أن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والثانية : محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكلّ.
والكرسي الذي هو أقربها بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة فما ظنك بما تحته ؟
وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة فسبحان اللطيف الخبير، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأ فيها لنا من المنافع آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد فانقطع باللجا إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع وسارع في مرضاته ومحابه في كل خفض ورفع.
تنبيه : دلت هذه الآية على القدرة من وجوه : أحدها : من حيث بقاؤها في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة. ثانيها : أنّ كلاً منها اختص بحركة خاصة متقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معنية. ثالثها : كونها في ذاتها محدثة وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.
وقوله تعالى :﴿ما ترى في خلق الرحمن﴾ أي : للسموات ولغيرها خطاب للنبي ﷺ أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله تعالى :﴿فارجع البصر﴾ ﴿ثم ارجع البصر﴾ ﴿ينقلب إليك البصر﴾ ﴿من تفاوت﴾، أي : من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها وإن اختلف صورة، وقيل : المراد بذلك السموات خاصة، أي : ما ترى في خلق السموات من عيب وأصله من الفوت وهو : أن يفوت بعضها بعضاً فيقع الخلل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس : من تفرّق، وقال السدي : أي من اختلاف وعيب يقول الناظر : لو كان كذا لكان
٣٦٩
أحسن، وقيل : المراد من التفاوت الفطور لقوله تعالى بعد ذلك :﴿فارجع البصر هل ترى من فطور﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿وما لها من فروج﴾ (ق : ٦) قال القفال : ويحتمل أن يكون المعنى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكم الصانع وأنه لم يخلقها عبثاً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٧
تنبيه : دلت هذه الآية على كمال علم الله تعالى، وذلك أن الحس دل على أن هذه السموات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فلا بدّ وأن يكون عالماً فدلت الآية على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله تعالى :﴿ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت﴾ إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
وقرأ :﴿ما ترى﴾ و﴿هل ترى﴾ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بين بين والباقون بالفتح، وأدغم لام هل في التاء أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي، وقرأ من تفوت حمزة والكسائي بغير ألف بعد الفاء وتشديد الواو والباقون بألف بعد الفاء وتخفيف الواو.
وقوله تعالى :﴿فارجع البصر﴾ مسبب عن قوله تعالى :﴿ما ترى﴾ وقوله تعالى :﴿هل ترى من فطور﴾ جملة يجوز أن تكون معلقة لفعل محذوف يدل عليه فارجع البصر، أي : فارجع البصر فانظر هل ترى، وأن يكون فارجع البصر مضمناً معنى انظر لأنه بمعناه فيكون هو المعلق.
والفطور جمع فطر وهو الشق يقال : فطره فانفطر، ومنه فطر ناب البعير كما يقال : شق ومعناه شق اللحم وطلع، قال المفسرون : الفطور : الصدوع والشقوق قال القائل :
*شققت القلب ثم ذرأت فيه ** هواك فليط فالتام الفطور*


الصفحة التالية
Icon