﴿ثم ارجع البصر﴾ وقوله تعالى :﴿كرتين﴾ نصب على المصدر كمرتين وهو مثنى لا يراد به حقيقته بل التكثير بدليل قوله تعالى :﴿ينقلب إليك البصر خاسئاً﴾، أي : صاغراً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طرداً بالصغار ﴿وهوحسير﴾، أي : كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ولا ثلاث، وإنما المعنى : كرات، وهذا كقولهم : لبيك وسعديك وحنانيك ودواليك وهذاذيك ؛ لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد إنما يريدون التكثير، أي : إجابة لك بعد إجابة وإلا لتناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة كقوله :
*لوعد قبر وقبر كنت أكرمه*
أي : قبور كثيرة ليتم المدح، وقال ابن عطية : كرتين معناه مرتين ونصبهما على المصدر.
٣٧٠
وقيل : الأولى : ليرى حسنها واستواءها، والثانية : ليبصر كواكبها في مسيرها وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط، وروى البغوي عن كعب أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية : مرمرة بيضاء، والثالثة : حديد، والرابعة : صفر أو قال : نحاس، والخامسة : فضة، والسادسة : ذهب، والسابعة : ياقوتة حمراء، وبين السماء السابعة والحجب السبعة صحارى من نور.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٧
ثم ذكر تعالى دلالة أخرى بعد تلك الدلالة تدل على تمام قدرته بقوله تعالى :﴿ولقد زينا﴾ بما لنا من العظمة ﴿السماء الدنيا﴾ أي : القربى لأنها أقرب السموات إلى الأرض وهي التي تشاهدونها ﴿بمصابيح﴾جمع مصباح وهو السراج أي : بنجوم متقدة عظيمة جداً تفوت الحصر ظاهرة سائرة مضيئة ظاهرة زاهرة وهي الكواكب التي تنوّر الأرض بالليل إنارة السرج التي تنوّرون بها سقوف دوركم، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وزينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح والتزين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيما فوقها من السماوات وهي تتراءى بحسب الشفوف وبما لأجرام السماوات من الصفاء ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة.
﴿وجعلناها﴾ أي : المصابيح بما لنا من العظمة مع كونها زينة وإعلاماً للهداية ﴿رجوماً للشياطين﴾ أي : الذين يحق لهم الطرد من الجن لما لهم من الاحتراق حراسة للسماء التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع فيها على الناس دينهم الحق ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي قد ختمنا به الأديان بالباطل.
والرجوم جمع رجم وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير، ويجوز أن يكون باقياً على مصدرتيه، ويقدر مضاف، أي : ذات رجوم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكوكب وهو قارّ في فلكه على حاله كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية لا تنقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالنجوم فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، وقال أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينة وهي رجوم ؟
: لا تنفي كيفية الرجم أن يؤخذ نار من ضوء الكوكب يرمى بها الشيطان والكوكب في مكانه لا يرجم به، وقيل : الرجوم هنا الظنون والشياطين شياطين الإنس كما قال القائل :
*وما هو عنها بالحديث المرجم*
فيكون المعنى : جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء من عظيم الابتلاء، وعن قتادة : خلقت النجوم لثلاث : زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وتكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم.
﴿وأعتدنا﴾ أي : هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة ﴿لهم﴾ أي :
٣٧١
للشياطين ﴿عذاب السعير﴾ أي : التي في غاية الاتقاد في الآخرة قال المبرد : سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل، وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة الآن لأن قوله تعالى :﴿وأعتدنا لهم﴾ خبر عن الماضي.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٧
ولما أخبر تعالى عن تهيئة العذاب لهم بالخصوص أخبر عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه فقال عز من قائل :﴿وللذين كفروا﴾ أي : أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله ﴿بربهم﴾ أي : الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت كفراً بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم ﴿عذاب جهنم﴾ أي : الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والغضب ﴿وبئس المصير﴾ أي : هي.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٧