﴿إذا ألقوا﴾ أي : طرح الكفار ﴿فيها﴾ أي : في نار جهنم من أيّ طارح أمرناه بطرحهم كما يطرح الحطب في النار العظيمة ﴿سمعوا لها﴾ أي : جهنم نفسها ﴿شهيقاً﴾ أي : صوتاً هائلاً أشد نكارة من أول صوت الحمار لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس : الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها كشهيق البغلة للشعير أو لأهلها على حذف مضاف كما قال عطاء : الشهيق للكفار، أي : سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى :﴿لهم فيها زفير وشهيق﴾ (هود : ١٠٦) قال القرطبي : الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق وقد مضى في سورة هود. ﴿وهي تفور﴾ أي : تغلي بهم ومنه قول حسان :
*تركتم قدركم لا شيء فيها ** وقدر القوم حابية تفور*
قال ابن عباس : تغلي بهم كغلي المراجل، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها.
﴿تكاد تميز﴾ أي : تقرب من أن ينفصل بعضها من بعض كما يقال : يكاد فلان ينشق من غيظه، وفلان غضب فطارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء، كناية عن شدة الغضب. وقرأ البزي بتشديد التاء من تميز في الوصل، والسوسي على أصله بإدغام الدال في التاء ﴿من الغيظ﴾ أي : عليهم، وقال سعيد بن جبير :﴿تكاد تميز من الغيظ﴾ يعني : ينقطع وينفصل بعضها من بعض، وقال ابن عباس : تتمزق من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى وذلك كله لغضب سيدها، وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به، وهي من شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر فلا يردها عنهم إلا النبي ﷺ يقابلها بنوره فترجع مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر أن يقلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها في الجو فعل من غير كلفة، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخه، روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال :"انكسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ فذكر صلاته إلى أن قال : ثم نفخ في آخر سجوده فقال : أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٢
ولما ذكر تعالى حالها أتبعه حالهم فقال تعالى :﴿كلما ألقي فيها ﴾ أي : في جهنم بدفع
٣٧٢
الزبانية لهم﴿فوج﴾ أي : جماعة في غاية الإسراع، والأفواج الجماعات في تفرقة ومنه قوله تعالى :﴿فتأتون أفواجاً﴾ (النبأ : ١٨) والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار ﴿سألهم﴾ أي : ذلك الفوج ﴿خزنتها﴾ أي : النار وهم مالك وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع ﴿ألم يأتكم﴾ أي : في الدنيا ﴿نذير﴾ أي : رسول يخوفكم هذا اليوم حتى تحذروا. قال الزجاج : وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
﴿قالوا بلى﴾ قرأه حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والوقف عليها كما في الوصل ﴿قد جاءنا نذير﴾ أي : محذر بليغ التحذير.
تنبيه : في ذلك دليل على جواز الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا : بلى لفهم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في نقمتهم على تفريطهم في قبول قول النذير وليعطفوا عليه قولهم ﴿فكذبنا﴾ أي : فتسبب عن مجيئه أنا أوقعنا التكذيب بكل ما قاله النذير ﴿وقلنا﴾ أي : زيادة في التكذيب ﴿ما نزل الله﴾ أي : الذي له الكمال كله عليكم ولا على غيركم ﴿من شيء﴾ لا وحياً ولا غيره وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين :﴿إن﴾ أي : ما ﴿أنتم﴾ أي : أيها النذر المذكورون في نذير، المراد به الجنس ﴿إلا في ضلال﴾ أي : بعد عن الطريق ﴿كبير﴾ فبالغنا في التكذيب والسفه بالاستجهال والاستخفاف. وقيل : قوله تعالى :﴿إن أنتم إلا في ضلال كبير﴾ من كلام الملائكة للكفار حين أخبروا بالتكذيب.
﴿وقالوا﴾ أي : الكفار زيادة في توبيخ أنفسهم ﴿لو كنا﴾ أي : بما لنا من الغريزة ﴿نسمع﴾ أي : كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتماداً على ما لاح من صدقهم بالمعجزات ﴿أو نعقل﴾ أي : بما أدته إلينا حاسة السمع فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ﴿ما كنا﴾ أي : كونا دائماً ﴿في أصحاب السعير﴾ أي : في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الإيقاد.
تنبيه : في الآية أعظم فضيلة للعقل، روي عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي ﷺ قال :"لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار :﴿لو كنا نسمع أو نعقل﴾" الآية
﴿فاعترفوا﴾ أي : بالغوا في الاعتراف حيث لا ينفعهم الاعتراف ﴿بذنبهم﴾ أي : في دار الجزاء كما بالغوا في التكذيب في دار العمل، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر والمراد به تكذيب الرسل ﴿فسحقاً﴾ أي : فبعداً لهم من رحمة الله تعالى وهو دعاء عليهم مستجاب ﴿لأصحاب السعير﴾ أي : الذين قضت عليهم أعمالهم بملازمتها، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح : هو واد في جهنم يقال : له السحق، وقرأ الكسائي بضم الحاء والباقون بسكونها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٢


الصفحة التالية
Icon