وقال القرطبي : قال المحققون : أأمنتم من فوق السماء كقوله تعالى :﴿فسيحوا في الأرض﴾ (التوبة : ٢)، أي : فوقها لا بالمماسة والتحيز بل بالقهر والتدبير والأخبار في هذا صحيحة كثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلوّ والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود، لأنها صفات الأجسام وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء، لأن السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس ومعدن المطهرين من الملائكة وإليها ترفع أعمال العباد وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله تعالى الكعبة قبلة للصلاة، ولأنه تعالى خلق الأمكنة وهو غير متحيز وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان.
وقوله تعالى :﴿أم أمنتم﴾ أي : أيها المكذبون ﴿من في السماء أن يرسل﴾ بدل من ﴿من في السماء﴾ بدل اشتمال. ﴿عليكم﴾ أي : من السماء ﴿حاصباً﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل : ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها، وقيل : هي سحاب فيها حجارة ﴿فستعملون﴾ أي : عن قريب بوعد لا يخلف عند معاينة العذاب ﴿كيف نذير﴾ أي : إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب، وهو بحيث لا يستطاع ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع. قال البقاعي : وحذف الياء منه ومن نكير إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطوق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد لا غاية له بوجه ولا تحزير، أي : على قراءة أكثر القراء فقد قرأ ورش بالياء في الوصل فيهما دون الوقف والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
﴿ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير﴾ أي : إنكاري عليهم لما أصبتهم به من العذاب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٤
ولما ذكر تعالى ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته بقوله تعالى :﴿أو لم يروا﴾ أجمع القراء على القراءة بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال تعالى :﴿إلى الطير﴾ وهو جمع طائر ﴿فوقهم﴾ أي : في الهواء، وقوله تعالى :﴿صافات﴾ أي : باسطات أجنحتهن يجوز أن يكون حالاً من الطير وأن يكون حالاً من فوقهم إذا جعلناه حالاً فتكون متداخلة وفوقهم ظرف لصافات على الأول أو ليروا.
٣٧٧
وقوله تعالى :﴿ويقبضن﴾ عطفه الفعل على الاسم لأنه بمعناه، أي : وقابضات فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله تعالى :﴿إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا﴾ (الحديد : ١٨) فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقال أبو حيان : وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى :﴿فالمغيرات صبحاً فأثرن﴾ (العاديات، الآيات : ٣ ـ ٤) عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه إلا عند السهيلي فإنه قبيح، وقال الزمخشري :﴿صافات﴾ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً ﴿ويقبضن﴾ ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قلت : لم قال :﴿ويقبضن﴾ ولم يقل قابضات ؟
قلت : لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، اه.
وقال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبيه : قابض، لأنه يقبضهما. وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا أوقفن عن الطيران. ﴿ما يمسكهن﴾ أي : عن الوقوع في حال البسط والقبض ﴿إلا الرحمن﴾ أي : الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة هيأهن للجري في الهواء. ﴿إنه﴾ أي : الرحمن سبحانه ﴿بكل شيء بصير﴾ أي : بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها فمهما أراد كان. والمعنى : أولم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٤
وقوله تعالى :﴿أمن﴾ مبتدأ، وقوله تعالى :﴿هذا﴾ خبره، وقوله تعالى :﴿الذي﴾ بدل من هذا، وقوله تعالى :﴿هو جند﴾ أي : أعوان ﴿لكم﴾ صلة الذي، وقوله تعالى :﴿ينصركم﴾ صفة جند ﴿من دون الرحمن﴾ أي : غيره يدفع عنكم عذابه، أي : لا ناصر لكم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : جندٌ لكم، أي : حزب ومنعة لكم ولفظ الجند يوحد ولذلك قال تعالى :﴿هذا الذي هو جند لكم﴾ وهو استفهام إنكاري، أي : لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله من دون الرحمن، أي : من سوى الرحمن. وقرأ أبو عمرو بسكون الراء، وللدوري اختلاس الضمة أيضاً والباقون بالرفع ﴿إن الكافرون﴾ أي : ما الكافرون ﴿إلا في غرور﴾ أي : من الشيطان يغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب.