قال بعض المفسرين : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ويعاندون النبي ﷺ معتمدين على شيئين : أحدهما : قوتهم بمالهم وعددهم. والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات، فأبطل الله تعالى عليهم الأول بقوله تعالى :﴿أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم﴾ الآية، ورد عليهم الثاني بقوله تعالى :
﴿أمن هذا الذي يرزقكم﴾ أي : على سبيل التجدد والاستمرار ﴿إن أمسك رزقه﴾ بإمساك الأسباب التي ينشأ عنها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً وكثيراً وسهل التناول فوضع الأكل في فمه فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي : فمن يرزقكم، أي : لا رازق لكم غيره، ﴿بل لجوا﴾ أي : تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة.
٣٧٨
قال الرازي في "اللوامع" : واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه، ﴿في عتوّ﴾ أي : مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد ﴿ونفور﴾ أي : تباعد عن الحق، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سارّ ولا دفع ضارّ والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٨
أفمن يمشي مكباً﴾ أي : واقعاً ﴿على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً﴾ أي : معتدلاً ﴿على صراط﴾ أي : طريق ﴿مستقيم﴾ وخبر من الثانية محذوف دل عليه خبر الأولى، أي : أهدى، والمثل في المؤمن والكافر، أي : أيهما أهدى، وقيل : المراد بالمكب الأعمى، فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير. وقيل : المكب هو الذي يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سوياً : الذي يحشر على قدميه إلى الجنة، وقال ابن عباس والكلبي رضي الله عنهم : عنى بالذي يمشي مكباً على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله ﷺ وقيل : أبو بكر، وقيل : حمزة، وقيل : عمار بن ياسر، قال عكرمة : وقيل : عامٌّ في الكافر والمؤمن، أي : أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل، أي : أهذا الكافر أهدى أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق وهو على صراط مستقيم وهو الإسلام، وقرأ قنبل بالسين وقرأ خلف بالإشمام، أي : بين الصاد والزاي والباقون بالصاد الخالصة.
﴿قل﴾ أي : يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما رفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه ﴿هو﴾ أي : الذي شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان ﴿الذي أنشأكم﴾ أي : أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في الأطوار المختلفة في الرحم، ويسر لكم بعد الخروج اللبن حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه ﴿وجعل لكم السمع﴾ أي : لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها ﴿والأبصار﴾ لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم ﴿والأفئدة﴾ أي : القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعهما لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفئدة. ﴿قليلاً ما تشكرون﴾ أي : باستعمالها فيما خلقت لأجله، وما مزيدة والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جداً على هذه النعم، وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان.
﴿قل هو﴾ أي : وحده ﴿الذي ذرأكم﴾ أي : خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعدما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء ﴿في الأرض﴾ التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات وغيره ﴿وإليه﴾ أي : وحده بعد موتكم ﴿تحشرون﴾ شيئاً فشيئاً إلى البرزخ ودفعة واحدة يوم البعث للحساب فيجازى كلاً بعمله.
﴿ويقولون﴾ أي : يجددون هذا القول تجديداً مستمراً استهزاء وتكذيباً ﴿متى هذا﴾ وزادوا في الاستهزاء بقولهم ﴿الوعد﴾ أي : يوم القيامة والعذاب الذي توعدوننا به ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي : في أنه لابدّ لنا منه وأنكم مقربون عند الله، فلو كان لهم ثبات الصبر لما كانوا طاشوا هذا الطيش بإبراز هذا القول القبيح.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٨
ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال بقوله عز وجل :﴿قل﴾ أي : يا أكرم الخلق لهؤلاء
٣٧٩
البعداء ﴿إنما العلم﴾ أي : علم وقت قيام الساعة ونزول العذاب ﴿عند الله﴾ أي : الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه لا يطلع عليه غيره ﴿وإنما أنا نذير﴾ أي : كامل في أمر النذارة التي يلزم منه البشارة لمن أطاع النذير، لا وظيفة لي عند الملك الأعظم غير ذلك فلا وصول إلى سؤاله عما لا يؤذن لي في السؤال عنه ﴿مبين﴾ أي : بين الإنذار بإقامة الأدلة حتى يصير ذلك كأنه مشاهدة لمن له قبول العلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٨