وقوله تعالى :﴿وتعيها﴾ عطف منصوب على لنجعلها، أي : ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوي في وعاء ﴿أذن﴾ أي : عظيمة النفع ﴿واعية﴾ أي : من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله تعالى كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض، والوعي : الحفظ في النفس، والإيعاء : الحفظ في الوعاء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٠٦
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : أذن واعية على التوحيد والتنكير ؟
قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت عقلت عن الله تعالى فهو السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين ا. ه. وقرأ نافع بسكون الذال والباقون بضمها.
ولما ذكر تعالى القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع سبحانه وتعالى في تفاصيل أحوالها وبدأ بذكر مقدماتها بقوله تعالى :﴿فإذا نفخ﴾ وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأن ما يتأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه لذلك من جنده تأثر عنه ما يريده ﴿في الصور﴾ أي : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. قال البقاعي : كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً ؛ لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة، وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها وسعته كما بين السماء والأرض ﴿نفخة واحدة﴾ للفصل بين الخلائق.
قال الزمخشري : فإن قلت : هما نفختان، فلم قيل : واحدة ؟
قلت : معناه أنها لا تثنى في وقتها. ثم قال : فإن قلت : فأي النفختين هي ؟
قلت : الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عنه أنها الثانية ا. ه.
قال البقاعي : وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه أهيب وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ا. ه. واقتصر البيضاوي على أنها الأولى والجلال المحلي على أنها الثانية وهو الأنسب كما قاله البقاعي.
ثم إن الزمخشري سأل سؤالاً على أنها النفخة الأولى بقوله : فإن قلت : أما قال بعد :﴿يومئذ تعرضون﴾ والعرض إنما هو عند النفخة الثانية، قلت : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، والصعقة والنشور والوقوف للحساب، فلذلك قيل :﴿يومئذ تعرضون﴾ كما تقول : جئتك
٤٠٨
عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته ا. ه.
ولما ذكر التأثير في الأحياء أتبعه التأثير في الجمادات وبدأ منها بالسفليات لملابستها للإنسان فتكون عبرته بها أكثر، فقال تعالى :﴿وحملت الأرض والجبال﴾ أي : التي بها ثباتها حملتهما الريح أو الملائكة أو القدرة من أماكنهما ﴿فدكتا﴾ أي : مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطت ودق بعضها ببعض ﴿دكة واحدة﴾ أي : فصارتا كثيباً مهيلاً بأيسر أمر، فلم يميز شيء منهما عن الآخر بل صارتا في غاية الاستواء، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وقال الفراء : لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة، ومثله ﴿أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما﴾ (الأنبياء : ٣٠)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٠٦
ولم يقل كن وهذا الدك كالزلزلة لقوله تعالى :﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ (الزلزلة : ١)
وقوله تعالى :﴿فيومئذ﴾ منصوب بوقعت وقوله تعالى :﴿وقعت الواقعة﴾ لابد فيه من تأويل، وهو أن تكون الواقعة صارت علماً بالغلبة على القيامة أو الواقعة العظيمة وإلا فقام القائم لا يجوز إذ لا فائدة فيه، والتنوين في يومئذ للعوض من الجملة تقديره : يوم إذ نفخ في الصور، ونوع تعالى أسماء القيامة بالحاقة والواقعة والقارعة تهويلاً لها.
ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي بقوله تعالى :﴿وانشقت السماء﴾ أي : ذلك الجنس لشدة هول ذلك اليوم، أي : انصدعت وتفطرت، وقيل : انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى :﴿ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً﴾ (الفرقان : ٢٥)
. ﴿فهي يومئذ واهية﴾ أي : ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش بعدما كانت محكمة يقال : وهي البناء يهي وهياً فهو واه إذا ضعف جداً ويقال : كلام واه، أي : ضعيف وقيل : واهية، أي : متخرّقة مأخوذ من قولهم : وهى السقاء إذا تخرّق ومن أمثالهم :
*خل سبيل من وهى سقاؤه ** ومن هريق بالفلاة ماؤه*


الصفحة التالية
Icon