﴿أني ملاق﴾، أي : ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى ﴿حسابيه﴾، أي : في الآخرة ولم ينكر البعث يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب لأنه تيقن أن الله تعالى يحاسبه فعمل للآخرة فحقق الله تعالى رجاءه وأمن خوفه فعلم الآن أنه لا يناقش الحساب، وإنما حسابه بالعرض وهو الحساب اليسير فضلاً من الله تعالى ونعمة.
﴿فهو في عيشة﴾ أي : حالة من العيش، وقوله تعالى :﴿راضية﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على النسب، أي : ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر، أي : ثابت لها الرضا ودائم لها ؛ لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبر عن أكبر السعادات بأكثر من العيشة لراضية بمعنى أن أهلها راضون بها، والمعتبر في كمال اللذة الرضا.
الثاني : أنه على إظهار جعل العيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها، وأنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.
الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى : مفعول نحو : ماء دافق بمعنى : مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى : فاعل كما في قوله تعالى :﴿حجاباً مستوراً﴾ (الإسراى : ٤٥)، أي : ساتراً وقال ﷺ "إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ويصحون فلا يمرضون أبداً وينعمون فلا يرون بأساً أبداً ويشبون فلا يهرمون أبداً". ﴿في جنة﴾ أي : بساتين جامعة لجميع ما يراد منها ﴿عالية﴾ أي : مرتفعة في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١١
وقوله تعالى :﴿قطوفها﴾ جمع كثرة لقطف بالكسر وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما يجنيه الجاني من الثمار، وأما القطف بالفتح فالمصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف ﴿دانية﴾، أي : قريبة المأخذ سهلة التناول جداً للراكب والقائم والقاعد والمضطجع كل ذلك على حدّ سواء دائماً من غير انقطاع لا كلفة على أحد في تناوله شيئاً من ذلك.
وقوله تعالى :﴿كلوا واشربوا﴾ على إضمار القول، أي : يقال لهم ذلك وجمع الضمير للمعنى ؛ لأن قوله تعالى :﴿فأما من أوتي كتابه﴾. يتضمن معنى الجمع وهذا أمر امتنان لا أمر تكليف، ﴿هنيئاً﴾ أي : أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا وهن ولا صداع ولا ثقل، والباء
٤١٣
في قوله تعالى :﴿بما أسلفتم﴾ سببية وما مصدرية أو اسمية، أي : بما قدّمتم من الأعمال الصالحة ﴿في الأيام الخالية﴾ أي : الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها وعن مجاهد رضي الله عنه : أيام الصيام، أي : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. وروي : يقول الله تعالى : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى مقبول ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقاً إلى حاله، وتغبيطاً بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى :﴿وأما من أوتي كتابه﴾ أي : صحيفة حسابه ﴿بشماله فيقول﴾ أي : لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها ﴿يا ليتني﴾ تمنياً للمحال ﴿لم أوت﴾ أي : من أي مؤت ما. ﴿كتابيه﴾ أي : هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها. ﴿ولم﴾ أي : ويا ليتني لم ﴿أدر ما﴾ حقيقة ﴿حسابيه﴾ من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا.
ثم يتمنى الموت ويقول :﴿يا ليتها﴾ أي : الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة ﴿كانت القاضية﴾ أي : القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه : يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت، قال الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١١
وشر من الموت الذي إن لقيته ** تمنيت منه الموت والموت أعظم*
والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي. وقوله :﴿ما أغنى عني ماليه﴾ يجوز أن يكون نفياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ويجوز أن يكون استفهام توبيخ لنفسه حيث سولت له ما أثر له كل سوء وكل محال، أي : أيّ شيء أغنى ما كان لي من اليسار الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله تعالى.
﴿هلك عني سلطانيه﴾ أي : ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد، وعن فناخسرة الملقب بالعضد، إنه لما قال :
*عضد الدولة وابن ركنها ** ملك الأملاك غلاب القدر*


الصفحة التالية
Icon