لم يفلح بعده وجنّ، فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ضلت عني حجتي، ومعناه : بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وذكر الضحاك أن الآية الأولى في أخي الأسود عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
ولما كان كأنه قيل : هذا ما قال فما يقال له ؟
أجيب : بأنه يقال للزبانية على رؤوس الأشهاد ﴿خذوه﴾ أي : أيتها الزبانية الذين كان يستهزئ بهم عند سماع ذكرهم ﴿فغلوه﴾ أي : اجمعوا يديه
٤١٤
إلى عنقه ورجليه إلى وراء قفاه إلى ناصيته.
﴿ثم الجحيم﴾ أي : النار العظمى التي تحجم على من يريد دفاعها ويحجم عنها من رآها، لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد ﴿صلوه﴾ أي : بالغوا في تصليته إياها وكرروها بغمسة في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى ؛ لأنه كان يتعاظم على الناس فناسب أن يصلى أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها فقال مؤذناً بعدم الخلاص، وتقديم المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم ولذلك قال الزمخشري : ثم لا يصلوه إلا الجحيم. قال أبو حيان : وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النجاة، اه.
لكن كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
﴿ثم في سلسلة﴾ أي : عظيمة جداً، وقوله تعالى :﴿ذرعها سبعون ذراعاً﴾ يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة وعلى هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبعون ذراعاً بذراع الملك، فتدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل : تدخل من فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي : سبعون ذراعاً كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان : كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال الحسن رضي الله عنه : الله أعلم أيّ ذراع هو، ويحتمل أن يكون مبالغة كما قال تعالى :﴿إن تستغفر لهم سبعين مرة﴾ (التوبة : ٨٠)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١١
يريد مرات كثيرة ؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد.
والذي يدل على هذا ما رواه الترمذي ـ وقال : إسناده حسن ـ عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال :"لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها". وعن كعب رضي الله عنه أنه قال :"لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها". أجارنا الله تعالى ومحبينا منها وجميع المسلمين، فأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال تعالى :﴿فاسلكوه﴾ أي : أدخلوه بحيث يكون كأنه السلك، أي : الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأنه تلف، قال الزمخشري : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية وما بينهما وبين السلك في السلسلة لا على تراخى المدة ا. ه.
ولما ذكر سبحانه على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١١
﴿إنه كان﴾ أي : جبلة وطبعاً وأن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغبياء ﴿لا يؤمن﴾ أي : الآن ولا في مستقبل الزمان ﴿بالله﴾ أي : الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى ﴿العظيم﴾ أي : الكامل العظم، وهذا تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل : ماله يعذب هذا العذاب الشديد ؟
أجيب بذلك وفي قوله تعالى :﴿ولا يحض﴾ أي : يحث ﴿على﴾ بذل ﴿طعام المسكين﴾ دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين : أحدهما : عطفه على الكفر وجعله قرينة له. والثاني : ذكر الحض دون
٤١٥
الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل، وما أحسن قول القائل :
*إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ** على الحيّ حتى تستقل مراجله*
يريد حضهم على القرى واستعجالهم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الثاني بالطعام. وقيل : هو منع الكفار وقولهم :﴿أنطعم من لو يشاء الله أطعمه﴾ (يس : ٤٧)
والمعنى على بذل طعام المسكين.