ولما وصفه سبحانه بأقبح العقائد وأشنع الرذائل تسبب عنه قوله تعالى :﴿فليس له اليوم ههنا﴾ أي : في مجمع القيامة كله ﴿حميم﴾ أي : صديق خالص يحميه من العذاب، لأنهم كلهم له أعداء كما أنه كان لا يرق على الضعفاء لما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال ﴿ولا طعام إلا من غسلين﴾ أي : غسالة أهل النار وصديدهم وقيحهم، فعلين من الغسل ﴿لا يأكله إلا الخاطئون﴾ أي : أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل : إذا تعمد الذنب وهم المشركون، لا من الخطأ المضاد للصواب، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها وهي بمنزلة ما كانوا يشحون من أموالهم التي أبطنوها وادّخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١٥
فلا أقسم﴾ أي : لا يقع مني إقسام ﴿بما تبصرون﴾ من المخلوقات ﴿وما لا تبصرون﴾ منها، أي : بكل الموجودات واجبها وجائزها ؛ معقولها ومحسوسها، لأنها لا تخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر، وقيل : الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجنّ والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة، لأنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت، ولو قيل بهذا في الواقعة لكان حسناً، وقيل : لا زائدة وجرى على ذلك الجلال المحلي.
﴿إنه﴾ أي : القرآن ﴿لقول﴾ أي : تلاوة ﴿رسول﴾ أي : أنا أرسلته به وعني أخذه وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي ﴿كريم﴾ أي : على الله تعالى فهو في غاية الكرم الذي هو البعد من مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء وهو محمد ﷺ وكرم الشيء اجتماع الكمالات فيه اللائقة به. وقيل : هو جبريل عليه السلام، قاله الحسن والكلبي رضي الله عنهما لقوله تعالى :﴿رسول كريم ذي قوة﴾ (التكوير : ١٩ ـ ٢٠)
واستدل للأول بقوله تعالى :﴿وما هو بقول شاعر﴾ أي : يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن.
قال مقاتل رضي الله عنه : سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمداً ﷺ ساحر، وقال أبو جهل : شاعر، وقال عقبة : كاهن، فردّ الله تعالى عليهم بذلك.
٤١٦
فإن قيل : كيف يكون كلاماً لله تعالى ولجبريل عليه السلام ولمحمد ﷺ أجيب : بأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فالله سبحانه وتعالى أظهره في اللوح المحفوظ وجبريل عليه السلام بلغه للنبي ﷺ وهو بلغه للأمّة.
﴿قليلاً ما تؤمنون﴾ منصوب نعتاً لمصدر أو زمان محذوف، أي : إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً والناصب يؤمنون وما مزيدة للتأكيد، وقال ابن عطية : ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه يؤمنون وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وتتصف بالقلة فهو الإيمان اللغوي لا الشرعي، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً وهو إخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار، وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية.
﴿ولا بقول كاهن﴾ وهو المنجم الذي يخبر عن الأشياء وأغلبها ليس له صحة، وقوله تعالى :﴿قليلاً ما تذكرون﴾ يأتي فيه ما تقدم في ﴿قليلاً ما تؤمنون﴾ وقال البغوي : أراد بالقليل نفي إسلامهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك : قلما تأتينا وأنت تريد ما تأتينا أصلاً، وقرأ :﴿قليلاً ما يؤمنون﴾ ﴿قليلاً ما يذكرون﴾ ابن كثير وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية فيهما، والباقون بالفوقية، وخفف الذال حمزة والكسائي وحفص وشددها الباقون.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١٥
وقوله تعالى :﴿تنزيل﴾ خبر لمبتدأ مضمر، أي : هو تنزيل على وجه التنجيم، قال البقاعي : وأشار إلى الرسالة إلى جميع الخلق من أهل السموات والأرض بقوله تعالى :﴿من رب العالمين﴾ أي : موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به ورتب سبحانه نظمه على وجه سهل على كل منهم يكفي في هدايته ا. ه. وهذا يدل على أنه ﷺ أرسل للملائكة وهو الذي ينبغي وإن لم يكونوا مكلفين تشريفاً لهم زيادة في شرفه بإرساله ﷺ إليهم.
﴿ولو تقوّل﴾، أي : كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً ﴿علينا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿بعض الأقاويل﴾ أي : التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها قال الزمخشري : التقوّل افتعال القول لأن فيه تكلفاً من المفتعل وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول. والمعنى : لو نسب إلينا قولاً لم نقله أو لم نأذن له في قوله :﴿لأخذنا﴾ أي : لنلنا ﴿منه﴾ أي : عقاباً ﴿باليمين﴾ أي : بالقوة والقدرة.