﴿ثم إني دعوتهم جهاراً﴾ أي : معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بأعلى صوتي.
﴿ثم إني أعلنت لهم﴾ أي : كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها ﴿وأسررت لهم إسراراً﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٠
﴿فقلت﴾ أي : في دعائي لهم ﴿استغفروا ربكم﴾ أي : اطلبوا من المحسن إليكم المبدع لكم المدبر لأموركم أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها بأن تؤمنوا بالله وتتقوه ﴿إنه كان﴾ أي : أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً ﴿غفاراً﴾ أي : متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه.
﴿يرسل السماء﴾ أي : المظلة لأن المطر منها، ويجوز أن يراد السحاب والمطر ﴿عليكم مدراراً﴾.
﴿ويمددكم بأموال وبنين﴾ أي : ويكثر أموالكم وأولادكم، وذلك أن قوم نوح عليه السلام
٤٣٢
لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله تعالى عنهم المطر وعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم، فقال لهم نوح : استغفروا ربكم من الشرك، أي : استدعوه المغفرة بالتوحيد ﴿يرسل السماء عليكم مدراراً﴾. روى الشعبي : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار، فلما نزل قيل : يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت ؟
فقال : لقد طلبت الغيث بمخاريج السماء التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء. وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال : استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا الآية. وقال القشيري : من وقعت له حاجة إلى الله تعالى فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار. وقال : إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك، كلما ازداد نوح عليه السلام في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان.
﴿ويجعل لكم﴾ أي : في الدارين ﴿جنات﴾ أي : بساتين عظيمة وأعاد العامل للتأكيد، فقال ﴿ويجعل لكم أنهاراً﴾ أي : يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً. وقال تعالى :﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾ (الأعراف : ٩٦)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٣٢
وقال تعالى :﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ وقال تعالى :﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً﴾ (الجن : ١٦)
﴿ما لكم لاترجون الله﴾ أي : الملك الذي له الأمر كله ﴿وقاراً﴾ أي : ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي : تعظيماً، والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة الوقار، فإنّ بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه بشيء وقر في صدره، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ولا تنازع له اختياراً، وتعظم أمره ونهيه بعدم المعارضة.
﴿وقد﴾ أي : والحال أنه قد أحسن إليكم مرّة بعد مرّة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته ثم لم يقطع إحسانه عنكم، فاستحق أن تؤمنوا به لأنه ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ (الرحمن : ٦٠)
ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه ﴿خلقكم﴾ أي : أوجدكم من العدم مقدّرين ﴿أطواراً﴾ أي : تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوانات، ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا ابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة.
﴿ألم تروا﴾ أي : أيها القوم ﴿كيف خلق الله﴾ أي : الذي له العلم التامّ والقدرة البالغة والعظمة الكاملة ﴿سبع سموات﴾ هنّ في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة ﴿طباقاً﴾ أي : متطابقة بعضها فوق بعض، وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ما لها من فروج، ولا يكون تمام المطابقة كذلك إلا بالإحاطة من كل جانب.
﴿وجعل القمر﴾ أي : الذي ترونه ﴿فيهنّ نوراً﴾ أي : لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد
٤٣٣
وجهيه يضيء لأهل الأرض ؛ والثاني لأهل السماوات. قال الحسن : يعني في السماء الدنيا، كما تقول : أتيت بني فلان، وإنما أتيت بعضهم وفلان متوار في دور بني فلان، وهو في دار واحدة، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر وغيبوبته في بعض الليالي، ثم ظهوره وذلك أعجب في القدرة.


الصفحة التالية
Icon