أحدها : اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهوداً. وذكر الحسن أنّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٠
ثانيها : اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من
٤٤٢
الجانّ لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان : أحدهما وهو قول الحسن : يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد : لا يدخلونها.
ثالثها : قال القرطبي : قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ، وقالوا : إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ ﷺ في صورهم كما يرى الملائكة، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات.
ثم عطفوا على قولهم إنا سمعنا ﴿وأنه﴾ أي : الشأن العظيم قال الجنّ ﴿تعالى﴾ أي : انتهى في العلوّ إلى حدّ لا يستطاع ﴿جدّ﴾ أي : عظمة وسلطان وكمال غنى ﴿ربنا﴾ يقال : جدّ الرجل إذا عظم ومنه قول أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم قدره. وقال السدي : جدّ ربنا أي أمر ربنا. وقال الحسن : غني ربنا. ومنه قيل : الحظ جدّ، ورجل مجدود، أي : محظوظ. وفي الحديث :"ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ". قال أبو عبيد والخليل : أي ذا الغنى منك الغنى إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس : قدرة ربنا. وقال الضحاك : فعله. وقال القرطبي : آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش : علا ملكُ ربنا، والأولى جميع هذه المعاني، وقرأ ﴿وأنه تعالى جدّ ربنا﴾ وما بعده إلى قوله تعالى :﴿وأنا منا المسلمون﴾ وهي اثنا عشر موضعاً ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة في الجميع والباقون بالكسر.
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالاً للباطل ﴿ما اتخذ صاحبة﴾ أي : زوجة ؛ لأن الصاحبة لا بدّ وأن تكون من نوع صاحبها، ومن له نوع فهو مركب تركيباً عقلياً من صفة مشتركة وصفة مميزة ﴿ولا ولداً﴾ لأنّ الولد لا بدّ وأن يكون جزءاً منفصلاً عن والده ومن له أجزاء فهو مركب تركيباً حسياً، ومن المقطوع به أنّ ذلك لا يكون إلا لمحتاج وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي. قال القشيري : ويجوز إطلاق لفظ الجدّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم فتجنبه أولى. أي : لأنه قيل إنهم عنوا بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ويكون ذلك من قول الجنّ. قال ابن جعفر الصادق : ليس لله تعالى جدّ وإنما قاله الجنّ للجهالة فلم يؤاخذوا به. وقال القرطبي : معنى الآية ﴿وأنه تعالى جدّ ربنا﴾ أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما، والرب تعالى عن ذلك كما تعالى عن الأنداد والنظراء.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٠
وأنه﴾ أي : وقالوا : إنّ الشأن هذا على قراءة الكسر وآمنا بأنه على قراءة الفتح. ﴿كان يقول﴾ أي : قولاً هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة ﴿سفيهنا﴾ هو للجنس، فيتناول إبليس رأس الجنس تناولاً أوّلياً وكل من تبعه ممن لم يعرف الله تعالى، لأنّ ثمرة العقل العلم، وثمرة العلم معرفة الله تعالى، فمن لم يعرفه فهو الذي يقول ﴿على الله﴾ الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه ﴿شططاً﴾ أي : كذباً وعدواناً، وهو وصفه بالشريك والولد.
والشطط والإشطاط
٤٤٣
الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك : هو الجور. وقال الكلبي : هو الكذب، وأصله : البعد فعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق.
﴿وأنا﴾ أي : يا معشر المسلمين من الجنّ ﴿ظننا﴾ أي : حسبنا لسلامة فطرتنا ﴿أن﴾ أي : أنه وزادوا في التأكيد فقالوا ﴿لن تقول﴾ وبدؤوا بأفضل الجنسين فقالوا ﴿الإنس﴾ وأتبعوهم قرناءهم، فقالوا ﴿والجنّ على الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي بيده النفع والضرّ ﴿كذباً﴾ أي : قولاً هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب، وإنما كنا نظنهم صادقين في قولهم إنّ لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق قيل انقطع الإخبار عن الجنّ ههنا.