﴿وأنه﴾ أي : الشان ﴿كان رجال﴾ أي : ذوو قوة وبأس ﴿من الإنس﴾ أي : النوع الظاهر في عالم الحس ﴿يعوذون﴾ أي : يلتجئون ويعتصمون خوفاً على أنفسهم وما معهم إذا نزلوا وادياً ﴿برجال من الجنّ﴾ أي : القبيل المستتر عن الأبصار، وذلك أنّ القوم منهم كانوا إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجنّ في بعض الأحيان ؛ لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله ولا دين صحيح ولا كتاب من الله تعالى صريح، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم، فكان الرجل يقول عند نزوله : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في أمن وفي جوار منهم حتى يصبح فلا يرى إلا خيراً، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته، قال مقاتل : كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى وتركوهم.
وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله ﷺ بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي وقال : يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى :﴿فزادوهم﴾ أي : الإنس والجن باستعاذتهم ﴿رهقاً﴾ أي : ضيقاً وشدّة وغشياناً، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد : الرهق : الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى :﴿وترهقهم ذلة﴾ (يونس : ٢٧)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٠
وقال الأعشى :
*لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ** هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا*
يعني إثماً، وقال مجاهد أيضاً : زادوهم أي : أنّ الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوّذ حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن، وقيل : لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن، فكان الرجل مثلاً يقول : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن.
تنبيه : قوله تعالى :﴿من الإنس﴾ صفة لرجال وكذا قوله ﴿من الجنّ﴾.
٤٤٤
﴿وأنهم﴾، أي : الإنس ﴿ظنوا﴾ والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر ﴿كما ظننتم﴾ أي : أيها الجنّ ويجوز العكس ﴿أن﴾ مخففة أي : أنه ﴿لن يبعث الله﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿أحداً﴾ أي : بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، أو أحداً من الرسل يزيل به عماية الجهل، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين.
قال الجن :﴿وأنا لمسنا السماء﴾ أي : زمن استراق السمع منها. قال الكلبي : السماء الدنيا أي : التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا من استماع ما تغوي به الإنس، واللمس المس فاستعير للطلب ؛ لأن الماس طالب متعرّف، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها ﴿فوجدناها﴾ في وجد وجهان :
أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قولهم ﴿ملئت﴾ في موضع نصب على الحال على إضمار قد.
والثاني : أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون ﴿حرساً﴾ منصوباً على التمييز، نحو : امتلأ الإناء ماء، والحرس اسم جمع لحارس نحو : خدم لخادم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيراً على أحراس، والحارس الحافظ الرقيب، والمصدر الحراسة و ﴿شديداً﴾ صفة لحرس على اللفظ، ولو جاء على المعنى لقيل شداداً بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شداداً كقولك : السلف الصالح، يعني الصالحين. قال القرطبيّ : ويجوز أن يكون حرساً مصدراً على معنى حرست حراسة شديدة ﴿وشهباً﴾ جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع.
﴿وأنا كنا﴾ أي : فيما مضى ﴿نقعد منها﴾ أي : السماء ﴿مقاعد﴾ أي : كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة ﴿للسمع﴾ أي : أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدُنَّ معها الكذب. ﴿فمن يستمع الآن﴾ أي : في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط ﴿يجد له﴾ أي : لأجله ﴿شهاباً﴾ أي : شعلة من نار ساطعة تحرقه ﴿رصداً﴾ أي : أرصد به ليرمى به.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٠


الصفحة التالية
Icon