تنبيه : اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي ﷺ فقال قوم : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي ﷺ فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب، وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله ﷺ منعت الشياطين ورموا بالشهب، قال الزمخشري : والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية، قال بشر بن أبي حازم :
*والعير يرهقها الغبار وجحشها ** ينقض خلفها انقضاض الكوكب*
٤٤٥
ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال، فلما بعث ﷺ كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلاً.
وعن معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟
قال : نعم. قلت : أرأيت قوله تعالى :﴿وأنا كنا نقعد منها مقاعد﴾ ؟
قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي ﷺ وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال :"بينا رسول الله ﷺ جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال :"ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية" ؟
فقالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال ﷺ "إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، فتسأل أهل السماء حملة العرش : ماذا قال ربكم ؟
فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء". وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة قال ابن عادل : وهذا قول الأكثرين.
فإن قيل : كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوماً لهم ؟
أجيب : بأنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي : والرصد قيل من الملائكة أي ورصداً من الملائكة، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وقيل : الرصد هو الشهاب، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول.
واختلف فيمن قال ﴿وأنا لا ندري﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿أشر أريد﴾ أي : بعدم استراق السمع ﴿بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم﴾ أي : المحسن إليهم المدبر لهم ﴿رشداً﴾ أي : خيراً فقال ابن زيد : معنى الآية أن إبليس قال : لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عقاباً أو يرسل إليهم رسولاً. وقيل : هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبيّ ﷺ أي : لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد ﷺ إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذَّب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي ﷺ ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل : قالوا لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين أي : لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض، فقالوا : إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٠
قال الجنّ ﴿وأنا منا الصالحون﴾ أي : العريقون في صفة الصلاح، قال الجلال المحلي بعد استماع القرآن ﴿ومنا دون ذلك﴾ أي : قوم غير صالحين ﴿كنا﴾ أي : كوناً هو كالجبلة ﴿طرائق قدداً﴾ أي : جماعات متفرّقين وأصنافاً مختلفة، قال سعيد بن المسيب : معنى الآية كنا مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً، وقال الحسن والسدّي : الجنّ أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة وخوارج وشيعة وسنية. وقال ابن كيسان : شيعاً وفرقاً لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير : ألواناً شتى. وقال أبو عبيدة : أصنافاً وقيل : منا الصالحون ومنا المؤمنون، لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبي : والأوّل أحسن لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله
٤٤٦
تعالى عنهم أنهم قالوا :﴿إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه﴾ وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة.
تنبيه : القدد جمع قدة والمراد بها الطريقة وأصلها السيرة، يقال : قدة فلان حسنة، أي : سيرته وهو من قدّ السير، أي : قطعه، فاستعير للسيرة المعتدلة. قال الشاعر :
*القابض الباسط الهادي بطلعته ** في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد*
وقال لبيد يرثي أخاه :
*لم تبلغ العين كل نهمتها ** يوم تمشي الجياد بالقدد*
والقد بالكسر سير يقد من جلد غير مدبوغ، ويقال : ما له قد ولا قحف، فالقد إناء من جلد والقحف إناء من خشب.
﴿وأنا ظننا أن لن نعجز الله﴾ أي : وإنا علمنا وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله أنا في قبضة الملك وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له.


الصفحة التالية
Icon