تنبيه : أطلقوا الظنّ على العلم إشارة إلى أنّ العاقل ينبغي له أن يتجنب ما يتخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع التخيل، فكيف إذا تيقن. وقولهم ﴿في الأرض﴾ حال، وكذلك هرباً في قولهم ﴿ولن نعجزه﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿هرباً﴾ فإنه مصدر في موضع الحال تقديره لا نفوته كائنين في الأرض أو هاربين منها إلى السماء، فليس لنا مهرب إلا في قبضته فأين أم إلى أين المهرب.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٦
وأنا لما سمعنا﴾ أي : من النبيّ ﷺ ﴿الهدى﴾ أي : القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوّغ أن يطلق عليه نفس الهدى ﴿آمنا به﴾ وبالله وصدقنا محمداً ﷺ على رسالته وكان ﷺ مبعوثاً إلى الإنس والجنّ. قال الحسن : بعث الله تعالى محمداً ﷺ إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى قط رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء، وذلك لقوله تعالى :﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى﴾ (يوسف : ١٠٩)
وفي الصحيح :"وبُعثت إلى الأحمر والأسود" أي الإنس والجنّ، وفي إرساله إلى الملائكة خلاف قدّمنا الكلام عليه.
﴿فمن يؤمن بربه﴾ أي : المحسن إليه منا ومن غيرنا ﴿فلا﴾ أي : فهو خاصة لا ﴿يخاف بخساً ولا رهقاً﴾ قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته لأن البخس النقصان والرهق العدوان وغشيان المحارم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٦
٤٤٧
﴿وأنا منا﴾ أي : الجن ﴿المسلمون﴾ أي : المخلصون في صفة الإسلام ﴿ومنا القاسطون﴾ أي : الجائرون أي : وإنا بعد سماع القرآن مختلفون فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط الجائر لأنه عدل عن الحق، والمقسط العادل إلى الحق، قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل فقسط الثلاثي بمعنى جار، وأقسط الرباعي بمعنى عدل.
وعن سعيد بن جبير : أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله : ما تقول فيّ ؟
قال : قاسط عادل. فقال القوم : ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجاج : يا جهلة إنما سماني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله تعالى :﴿وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً﴾. ﴿ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ (الأنعام : ١)
﴿فمن أسلم﴾ أي : أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه من الجن وغيرهم ﴿فأولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿تحرّوا﴾ أي : توخوا وقصدوا مجتهدين ﴿رشداً﴾ أي : صواباً عظيماً وسداداً كان لما عندهم من النقائص شارداً عنهم، فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً.
﴿وأما القاسطون﴾ أي : العريقون في صفة الجور عن الصواب من الإنس والجن، فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحرّوا لها فضلوا فأبعدوا عن الطريق القويم فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها. ﴿فكانوا لجهنم﴾ أي : النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة ﴿حطباً﴾ أي : توقد بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء، مادامت تتقدّ لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون.
تنبيه : قوله تعالى :﴿فكانوا﴾، أي : في علم الله عز وجلّ. فإن قيل : لم ذكروا عقاب القاسطين ولم يذكروا ثواب المسلمين ؟
أجيب : بأنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر وطووا ما يحب للعلم به لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً بل لا بد أن يزيد عليه تسعة أضعافه وعنده المزيد أو أنهم ذكروه بقولهم ﴿تحرّوا رشداً﴾ أي : تحرّوا رشداً عظيماً لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
فإن قيل : إنّ الجنّ مخلوقون من النار فكيف يكونون حطباً للنار ؟
أجيب : بأنهم وإن خلقوا منها لكنهم يغيرون عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً ودماً هكذا قيل وهذا آخر كلام الجن.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
وأن في قوله تعالى :﴿وأن﴾ هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : وأنهم وهو معطوف على أنه استمع أي وأوحي إلي أنّ الشأن العظيم. ﴿لو استقاموا على الطريقة﴾ أي : طريقة الإسلام ﴿لأسقيناهم﴾ أي : لجعلنا لهم بما لنا من العظمة ﴿ماء غدقاً﴾ أي : لو آمن هؤلاء الكفار لَوَسّعنا عليهم في الدنيا ولبسطنا لهم في الرزق. وضرب الماء الغدق مثلاً، لأنّ الخير والرزق كله
٤٤٨
في المطر، كما قال تعالى ﴿ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم﴾ (الأعراف : ٩٦)
الآية. وقال تعالى :﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ (المائدة : ٦٦)
الآية. وقال تعالى :﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً﴾ (الطلاق : ٢)
الآية. وقال تعالى :﴿استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً﴾ إلى قوله :﴿ويمددكم بأموال وبنين﴾ (نوح : ١٠ ـ ١٢)
الآية.
﴿لنفتنهم﴾ أي : نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة ﴿فيه﴾ أي : في ذلك الماء الذي تكون عنده أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر.