فلا تدعوا} أي : فلا تعبدوا أيها المخلوقون ﴿مع الله﴾ الذي له جميع العظمة ﴿أحداً﴾ وهذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله تعالى غيره في المسجد الحرام، وقال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها يقول : فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد، وقيل : المعنى أفردوا المساجد لذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيباً وفي الصحيح :"من نشد ضالة في المسجد فقولوا : لا ردّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تبن لهذا" وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله ؛ لأنّ قوله تعالى :﴿فلا تدعوا مع الله أحداً﴾
٤٥٠
في ضمنه أمر بذكر الله تعالى ودعائه، وروى الضحاك عن ابن عباس "أنّ النبيّ ﷺ كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال :﴿وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً﴾ اللهمّ عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار، فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى، وقال : اللهمّ صب عليّ الخير صباً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الأرض جدّاً" أي : غنى.
وقرأ ﴿وأنه﴾ نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بالفتح أي وأوحي إليّ أنه ﴿لما قام عبد الله﴾ أي : عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال، فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله وعبد الله هو محمد ﷺ حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن.
فإن قيل : هلا قيل رسول الله أو النبي ؟
أجيب : بأنّ تقديره وأوحي، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله ﷺ عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأنّ المعنى أنّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر حتى تكونوا عليه لبداً، ومعنى ﴿يدعوه﴾ أي : يعبده وقال ابن جريج : يدعوه أي قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحال أي موحداً له ﴿كادوا﴾ أي : قرب الجنّ المستمعون لقراءته ﴿يكونون عليه﴾ أي : على عبد الله ﴿لبداً﴾ أي : متراكمين بعضهم على بعض من شدّة ازدحامهم حرصاً على سماع القرآن وقيل : كادوا يركبونه حرصاً قاله الضحاك. وقال ابن عباس : رغبة في سماع القرآن وروي عن مكحول أنّ الجنّ بايعوا رسول الله ﷺ في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر، وعن ابن عباس أيضاً أنّ هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله ﷺ وائتمامهم به في الركوع والسجود.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليبطلوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبري أن يكون كادت العرب يجتمعون على النبيّ ﷺ ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به، وقرأ هشام بضم اللام والباقون بكسرها، فالأولى جمع لبدة بضم اللام نحو غرفة وغرف. وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات، وعليه قوله تعالى :﴿مالاً لبداً﴾ (البلد : ٦)
وأمّا الثانية فجمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب واللبدة واللبدة الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد كقول زهير :
*لدى أسد شاكي السلاح مقذف ** له لبد أظفاره لم تقلم*
ومنه اللبد لتلبد بعضه فوق بعض.
ولما قال كفار قريش للنبيّ ﷺ إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك ﴿قال﴾ ﷺ مجيباً لهم ﴿إنما أدعو ربي﴾ أي : الذي أوجدني ورباني ولا نعمة عندي إلا منه وحده لا أدعو غيره حتى تعجبوا مني ﴿ولا أشرك به﴾ أي : الآن ولا في مستقبل
٤٥١
الزمان بوجه من الوجوه ﴿أحداً﴾ من ودّ وسواع ويغوث ويعوق وغيرها من الصامت والناطق، وقرأ عاصم وحمزة قل بصيغة الأمر التفاتاً، أي : قل يا محمد والباقون قال بصيغة الماضي والخبر إخباراً عن عبد الله وهو محمد ﷺ قال الجحدري : وهو في المصحف كذلك وقد تقدّم لذلك نظائر في ﴿قل سبحان ربي﴾ (الإسراء : ٩٣)
في آخر الإسراء وكذا في أوّل الأنبياء وآخرها وآخر المؤمنين.
﴿قل﴾ أي : يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك ﴿إني لا أملك لكم﴾ أي : الآن ولا بعده بنفسي من غير إقدار الله تعالى لي ﴿ضراً ولا رشداً﴾ أي : لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق إليكم خيراً، وقيل : لا أملك لكم ضراً أي كفراً ولا رشداً أي هدى ؛ لأنه لا يؤثر شيء من الأشياء إلا الله تعالى، وإنما عليّ البلاغ. وقيل : الضر الموت والرشد الحياة.


الصفحة التالية
Icon