وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : تلقهم والقمر في العقرب، فقال : فأين قمرهم وكان ذلك في آخر السنة. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم. وقال له مسافر بن عون : يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار. فقال له عليّ : ولم ؟
قال له : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت، فقال عليّ : ما كان لمحمد ﷺ منجم ولا لنا من بعده، ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّاً أو ضدّاً، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها، ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال :"لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال : إنما كان ذلك بتنجيمي، وما لمحمد منجم وما لنا بعده، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال : يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه".
﴿فإنه﴾ أي : الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه ﴿يسلك﴾ أي : يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد ﴿من بين يديه﴾ أي : الجهة التي يعلمها ذلك الرسول ﴿ومن خلفه﴾ أي : الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي : ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين ﴿رصداً﴾ أي : حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
وقال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك بخبر، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره، وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك. وعن
٤٥٥
الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
﴿ليعلم﴾ أي : الله علم ظهور كقوله تعالى :﴿حتى نعلم المجاهدين﴾ (محمد : ٣١)
﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة، أي أنه ﴿قد أبلغوا﴾ أي : الرسل ﴿رسالات ربهم﴾ وحد أوّلاً على اللفظ في قوله تعالى ﴿من بين يديه ومن خلفه﴾ ثم جمع على المعنى كقوله تعالى :﴿فأنّ له نار جهنم خالدين فيها﴾ (التوبة : ٦٣)، والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان. وقيل : ليعلم محمد ﷺ أن جبريل قد بلغ رسالات ربه. وقيل : ليعلم محمد ﷺ أنّ الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
﴿وأحاط بما لديهم﴾ أي : بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها ﴿وأحصى﴾ أي : الله سبحانه وتعالى ﴿كل شيء﴾ أي : من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغير ذلك ﴿عدداً﴾ ولو على أقل المقادير الذرّ فيما لم يزل وفيما لا يزال فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه ؟
وقال ابن جبير رضي الله عنه : ليعلم الرسل أنّ ربهم قد أحاط بما لديهم فيبلغوا رسالاته.
تنبيه : هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات وبجميع الموجودات.
و ﴿عدداً﴾ يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل أحصى عدد كل شيء كقوله تعالى :﴿وفجرنا الأرض عيوناً﴾ (القمر : ١٢)
أي : عيون الأرض، وأن يكون منصوباً على الحال، أي : وضبط كل شيء معدوداً محصوراً وأن يكون مصدراً في معنى الإحصاء.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : إنّ النبيّ ﷺ قال :"من قرأ سورة الجنّ كان له بعدد كل جني صدّق محمداً وكذب به عتق رقبة" حديث موضوع.
٤٥٦
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٤٧