وقوله تعالى :﴿يوم ترجف﴾ منصوب بالاستقرار المتعلق به لدينا والرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة فتزلزل ﴿الأرض﴾ أي : كلها ﴿والجبال﴾ أي : التي هي أشدّها ﴿وكانت﴾ أي : وتكون ﴿الجبال﴾ التي هي مراسي الأرض وأوتادها وعبر عن شدّة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد، فقال تعالى :﴿كثيباً﴾ أي : رملاً مجتمعاً، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ومنه الكثبة من اللبن ﴿مهيلاً﴾ قال ابن عباس : رملاً سائلاً يتناثر. وقال الكلبي : هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده. قال القرطبي : وأصله مهيول وهو مفعول من قولك هلت عليه التراب أهيله إهالة وهيلاً إذا صببته، يقال : مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول ومعين ومعيون. قال الشاعر :
*قد كان قومك يحسبونك سيداً ** وأخال أنك سيد معيون*
وقال عليه الصلاة والسلام حين شكوا إليه الجدوبة :"أتكيلون أم تهيلون" ؟
قالوا : نهيل. قال :"كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه".
وأصل مهيل مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الهاء فالتقى ساكنان، فسيبويه وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة أنّ ما يحذف لالتقاء الساكنين الأوّل، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ مفعل، والكسائي ومن تبعه حذفوا الياء لأنّ القاعدة حذف الأوّل كما مرّ.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٦٦
ولما خوّف تعالى المكذبين أولي النعمة بأهوال يوم القيامة خوّفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى :﴿إنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿أرسلنا إليكم﴾ يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة وإلى كل من بلغته الدعوة عامّة ﴿رسولاً﴾ أي : عظيماً جدًّا، وهو محمد ﷺ خاتم النبيين وإمامهم وأجلهم
٤٦٧
وأفضلهم قدراً ﴿شاهداً عليكم﴾ أي : بما تصنعون ليؤدّي الشهادة عند طلبها منه يوم ننزع من كل أمّة شهيداً وهو يوم القيامة ﴿كما أرسلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿إلى فرعون﴾ أي : ملك مصر ﴿رسولاً﴾ وهو موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل. قال مقاتل : وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأنّ أهل مكة ازدروا محمداً ﷺ واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أنّ فرعون ازدرى بموسى عليه السلام لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى حكاية عن فرعون :﴿ألم نربك فينا وليداً﴾ (الشعراء : ١٨)
وذكر الرازي السؤال والجواب. قال ابن عادل : وهو ليس بالقوي لأنّ إبراهيم عليه السلام ولد ونشأ فيما بين قوم نمروذ وكان آزر وزير نمروذ على ما ذكره المفسرون، وكذا القول في هود ونوح وصالح ولوط لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة ﴿أخاهم﴾ لأنه من القبيلة التي بعث إليها انتهى. وقد يقال : الجامع بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام التربية، فإنّ أبا طالب تربى عنده النبيّ ﷺ وموسى عليه السلام تربى عند فرعون ولم يكن ذلك لغيرهما.
﴿فعصى فرعون الرسول﴾ إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه أل العهدية والعرب إذا قدمت اسماً ثم أتوا به ثانياً أتوا به معرفاً بأل أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو : رأيت رجلاً فأكرمت الرجل أو فأكرمته، ولو قلت فأكرمت رجلاً لتوهم أنه غير الأوّل. وقال المهدوي : ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره ولذا اختير في أوّل الكتب سلام عليكم وفي آخرها السلام عليكم.
ثم تسبب عن عصيانه قوله تعالى :﴿فأخذناه﴾ أي : فرعون بما لنا من العظمة، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله تعالى :﴿أخذاً وبيلاً﴾ أي : ثقيلاً شديداً، وضرب وبيل وعذاب وبيل، أي : شديد قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه مطر وابل، أي : شديد قاله الأخفش. وقال الزجاج : أي : ثقيلاً غليظاً ومنه قيل للمطر وابل، وقيل : مهلكاً. والمعنى : عاقبناه عقوبة غليظة، وفي ذلك تخويف لأهل مكة.
ثم خوّفهم بيوم القيامة فقال تعالى :﴿فكيف تتقون إن كفرتم﴾ أي : توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم إذا كفرتم في الدنيا، والمعنى : لا سبيل لكم إلى التقوى إذا رأيتم القيامة. وقيل : معناه : فكيف تتقون العذاب يوم القيامة إذا كفرتم في الدنيا. وقوله تعالى :﴿يوماً﴾ مفعول تتقون أي : عذابه أي : بأي حصن تتحصنون من عذاب الله يوم ﴿يجعل الولدان﴾ وقوله تعالى ﴿شيباً﴾ جمع أشيب، والأصل في الشين الضم وكسرت لمجانسة الياء، ويقال في اليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال، وهو مجاز، ويجوز أن يراد في الآية الحقيقة والمعنى : يصيرون شيوخاً شمطاً من هول ذلك اليوم وشدّته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام قم : فابعث بعث النار من ذريتك، قال رسول الله ﷺ "يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك ـ وفي رواية والخير بين يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال : يا رب وما بعث النار. قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد ﴿وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد﴾ (الحج : ٢)