﴿علم أن﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : أنه ﴿لن تحصوه﴾ أي : الليل لتقوموا فيما يجب القيام فيه إلا بقيام جميعه، وذلك يشق عليكم ﴿فتاب عليكم﴾ أي : رجع بكم إلى التخفيف بالترخص لكم في ترك القيام المقدّر أوّل السورة.
وقوله تعالى :﴿فاقرؤوا ما تيسر﴾ أي : سهل ﴿من القرآن﴾ فيه قولان :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٠
أحدهما أن المراد بهذه القراءة القراءة في الصلاة، وذلك أنّ القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى : فصلوا ما تيسر عليكم، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء. قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أوّل ركعة بالحمد وأوّل آية من البقرة ثم ركع، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع، فلما انصرف أقبل علينا، فقال : إنّ الله تعالى يقول :﴿فاقرؤوا ما تيسر منه﴾.
قال القشيري : والمشهور أنّ نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبيّ ﷺ وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : بل نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً، وإذا ثبت أنّ القيام ليس فرضاً فقوله تعالى ﴿فاقرؤوا ما تيسر من القرآن﴾ معناه : اقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.
والقول الثاني : أنّ المراد بقوله تعالى :﴿فاقرؤوا ما تيسر من القرآن﴾ دراسته وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان سواء كان في صلاة أم غيرها، قال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من
٤٧٠
القانتين. وقال سعيد : خمسين آية. قال القرطبي : قول كعب أصح لقوله ﷺ "من قام بعشر آيات من القرآن لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" خرجه أبو داود والطيالسي. وروى أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر" فقوله من المقنطرين أي : أعطي قنطاراً من الأجر. وجاء في الحديث "أنه ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض".
وقال أبو عبيدة : القناطير واحدها قنطار، ولا تجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه. وقال ثعلب : المعوّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة، فهي اثنا عشر ألف دينار. وقيل : إنّ القنطار ملء جلد ثور ذهباً. وقيل : ثمانون ألفاً. وقيل : هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير. قال القرطبي : والقول الثاني أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ والقول الأوّل مجاز ؛ لأنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله، وإذا كان ذلك على قيام لا في قدر القراءة فلا دليل فيه على أنّ الفاتحة لا تتعين في الصلاة، بل هي متعينة في كل ركعة لخبر الصحيحين :"لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" ولخبر "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما، ولفعله ﷺ كما في مسلم مع خبر البخاري "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويحمل قوله تعالى ﴿فاقرؤوا ما تيسر منه﴾ مع خبر "ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن" على الفاتحة أو على العاجز عنها جمعاً بين الأدلة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٠
ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أوّل السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ، فقال تعالى :﴿علم أن﴾ مخففة من الثقيلة أي : أنه ﴿سيكون﴾ أي : بتقدير لا بدّ منه ﴿منكم مرضى﴾ جمع مريض وهذه السورة من
٤٧١
أوّل ما نزل على النبيّ ﷺ ففي ذلك إشارة بأنّ أهل الإسلام يكثرون جدًّا ﴿وآخرون﴾ غير المرضى ﴿يضربون﴾ أي : يوقعون الضرب ﴿في الأرض﴾ أي : يسافرون لأنّ الماشي يجد ويضرب برجله في الأرض ﴿يبتغون﴾ أي : يطلبون طلباً شديداً ﴿من فضل الله﴾ أي : بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده بالتجارة وغيرها ﴿وآخرون﴾ أي : منكم أيها المسلمون ﴿يقاتلون﴾ أي : يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله تعالى، ولذلك بينه بقوله تعالى ﴿في سبيل الله﴾ أي : الملك الأعظم، وكل من الفرق الثلاث يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل، وسوّى سبحانه في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين للمال الحلال لنفقته على نفسه وعياله والإحسان فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله، قال ﷺ "ما من جالب يجلب طعاماً من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ثم قرأ رسول الله ﷺ ﴿وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله﴾.