وثالثها : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين فكأنه قيل له : يا أيها المدّثر بأثواب العلم العظيم والخلق الكريم والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك، وعلى كلا القولين في ندائه ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ولم يقل : يا محمد.
﴿وربك﴾ أي : خاصة ﴿فكبر﴾ أي : عظمه عما يقول عبدة الأوثان وصفه بأنه أكبر من أن تكون له صاحبة أو ولد، وفي الحديث أنهم قالوا بم تفتتح الصلاة ؟
فنزل ﴿وربك فكبر﴾ أي : صفه بأنه أكبر. قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه يرادفه تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأنداد والأصنام دونه ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه.
وروي أنّ أبا سفيان قال يوم أحد : اعل هبل وهو اسم صنم كان لهم فقال النبي ﷺ قولوا الله أعلى وأجل، وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذاناً وصلاة وذكراً يقول : الله أكبر، وحمل عليه لفظ النبيّ ﷺ الوارد على الإطلاق مواردها منها قوله :"تحريمها التكبير وتحليلها التسليم"، والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعزمه. ومن موارده أوقات الإهلال بالله تعالى تخليصاً له من الشرك وإعلاماً باسمه بالنسك وإفراداً لما شرع من أمره بالنسك، والمنقول عن النبيّ ﷺ في التكبير في الصلاة هو لفظ الله أكبر.
وقال المفسرون : لما نزل قوله تعالى ﴿وربك فكبر﴾ قام النبيّ ﷺ وقال :"الله أكبر" فكبرت خديجة رضي الله تعالى عنها وفرحت وعلمت أنه وحي من الله تعالى" ذكره القشيري، وقال مقاتل : هو أن يقال الله أكبر وقيل : المراد منه التكبير في الصلاة، واستشكل ذلك على القول بأنها أوّل سورة نزلت، فإنّ الصلاة لم تكن فرضت. وأجيب : بأنه يحتمل أنه ﷺ كان له صلوات تطوّع فأمر أن يكبر فيها.
تنبيه : دخلت الفاء في قوله تعالى ﴿فكبر﴾ وفيما بعده لإفادة معنى الشرط كأنه قيل : وما يكن فكبر ربك أو للدلالة على أنّ المقصود الأوّل من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه، فإنّ أوّل ما يجب معرفة الصانع، وأوّل ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه والقوم كانوا مقرّين به.
﴿وثيابك فطهر﴾ أي : من النجاسات لأنّ طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى والأحبّ في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً. قال الرازي : إذا حملنا التطهير على حقيقته ففي الآية ثلاث احتمالات :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٤
الأوّل : قال الشافعي : المقصود من الآية الإعلام بأنّ الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس.
٤٧٦
وثانيها : روي أنهم ألقوا على رسول الله ﷺ سلاء شاة فشق عليه، فرجع إلى بيته حزيناً وتدثر في ثيابه ﷺ فقيل :﴿يا أيها المدّثر قم فأنذر﴾ ولا تمنعك تلك الشناعة عن الإنذار ﴿وربك فكبر﴾ على أن لا يتنقم منهم ﴿وثيابك فطهر﴾ عن تلك النجاسات والقاذورات.
وثالثها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يصون ثيابه عنها.
وقيل : هو أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. قال ﷺ "إزار المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار" فجعل ﷺ الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد على ما تحته بالنار، فما بالُ رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقال ﷺ "لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء" وفي رواية "من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة". قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إنّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله ﷺ "لست ممن يصنعه خيلاء".
وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات. يقال فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه فكني به عنه ألا ترى إلى قولهم : أعجبني زيد ثوبه كما تقول : أعجبني زيد عقله وخلقه، ويقولون : المجد في ثوبه والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عني بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبيث وإيثار الطهر في كل شيء. وقال عكرمة : سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى :﴿وثيابك فطهر﴾ فقال : لا تلبسها على معصية ولا على غدر ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :
*وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من عنده أتقنع*


الصفحة التالية
Icon