وكان الوليد يقول : إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي، فقال الله تعالى ردًّا عليه وتكذيباً له ﴿كلا﴾ أي : وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً، وأمّا النقصان فسيرى إن استمرّ على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع ولينزجر وليرتجع، فإنه حمق محض وزخرف بحت وغرور صرف، قالوا : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك فقيراً.
تنبيه : كلا قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة فيكون متصلاً بالكلام الأوّل وقيل : كلا بمعنى حقاً.
ويبتدأ بقوله تعالى ﴿إنه﴾ أي : هذا الموصوف ﴿كان﴾ أي : بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر
٤٨٠
على الانفكاك عنه ﴿لآياتنا﴾ على ما لها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية لا إلى غيرها من الشبه القائدة إلى الشرك ﴿عنيداً﴾ قال قتادة : أي : جاحداً. وقال مقاتل : معرضاً. وقال مجاهد : إنه المجانب للحق. وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف والعنيد بمعنى المعاند، والعناد كما قال الملوي من كبر في النفس ويبس في الطبع وشراسة في الأخلاق أو خبل في العقل، وقد جمع ذلك كله إبليس لعنه الله تعالى لأنه خلق من نار وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية.
تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ الوليد كان معانداً في أمور كثيرة منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد وصحة النبوّة وصحة البعث، ومنها أنّ كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر العناد أفحش أنواع الكفر، ومنها أنّ قوله تعالى كان يدل على أنّ هذه حرفته من قديم الزمان.
﴿سأرهقه﴾ أي : أكلفه ﴿صعوداً﴾ أي : مشقة من العذاب لا راحة له فيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ ﷺ "أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي" وفي رواية أنه "كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت فإذا رفعها عادت وكذا رجله" وقال الكلبي : إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه بسلاسل الحديد ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها فذلك دأبه أبداً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٩
أي : هذا العنيد ﴿فكر﴾ أي : ردّد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن أو النبيّ ﷺ ﴿وقدّر﴾ أي : أوقع تقدير الأمور التي يطعن بها وقاسها في نفسه لعلمه أنها أقرب إلى القبول وذلك أنّ الله تعالى لما أنزل على النبيّ ﷺ ﴿حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم﴾ إلى قوله تعالى :﴿المصير﴾ (غافر : ٢ ـ ٣)
قام النبيّ ﷺ في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ ﷺ لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم. فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال له الوليد : ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي ؟
قال : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على
٤٨١
كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وأنك داخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة تسأل من فضل طعامهم فغضب الوليد وقال : ألم تعلم أني من أكثرهم مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم : تزعمون أنّ محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق قط ؟
قالوا : اللهمّ لا، قال : تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهن ؟
فقالوا : اللهم لا، قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط ؟
قالوا : اللهمّ لا. قال : تزعمون أنه كذاب فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب ؟
قالوا : اللهمّ لا. وكان رسول الله ﷺ يسمى الأمين قبل النبوّة من صدقه، فقالت قريش للوليد : فما هو ؟
فتفكر في نفسه وقدّر ما أسرّ".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٨١
قال الله تعالى :﴿فقتل﴾ أي : هلك وطرد ولعن في دنياه هذه ﴿كيف قدر﴾ أي : على أي : كيفية أوقع تقديره هذا.
﴿ثم قتل﴾ أي : هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة. ﴿كيف قدر﴾ فثم للدلالة على أنّ الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله :
*ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي*
ومعنى قول القائل قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره للإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. وأما ثم المتوسطة بين الأفعال التي بعدها فهي للدلالة على أنه تأنى في التأمل وتمهل وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد.