وقوله تعالى :﴿بلى﴾ إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام وهو وقف حسن، ثم يبتدئ بقوله تعالى :﴿قادرين﴾ وقيل : المعنى : بل نجمعها قادرين مع جمعها ﴿على أن نسوي بنانه﴾ أي : أصابعه وسلامياته وهي عظامه الصغار التي في يده، خصها بالذكر لأنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه أي : نجمع بعضها على بعض على ما كانت عليه قبل الموت لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها، فنقدر على جمعها وتوصيلها، وقدرنا على جمع صغار العظام فنحن على جمع كبارها أقدر، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : على أن نسوي بنانه أي : نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير أو كحافر الحمار أو كظلف الخنزير، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً، ولكنا فرّقنا أصابعه حتى يفعل بها ما شاء. وقيل : نقدر أن نصير الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها وهو كقوله تعالى :﴿وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون﴾ (الواقعة : ٦٠ ـ ٦١)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩١
وقوله تعالى :﴿بل يريد الإنسان﴾ عطف على أيحسب فيجوز أن يكون استفهاماً وأن يكون جواباً لجواز أن يكون الإضراب عن المستفهم وعن الاستفهام ﴿ليفجر أمامه﴾ أي : ليدوم على فجوره فيما يستقبله من زمان لا يبرح عنه ولا يتوب، هذا قول مجاهد رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : يقدّم الذنب ويؤخر التوبة، فيقول : سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت على أشرّ أحواله وأسوأ أعماله. وقال الضحاك رضي الله عنه : هو الأجل يقول : أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجراً لميله عن الحق.
﴿يسأل﴾ أي : سؤال استهزاء أو استبعاد ﴿أيان﴾ أي : أي وقت يكون ﴿يوم القيامة﴾.
ولما كان الجواب يوم يكون كذا وكذا عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول فقال تعالى ﴿فإذا برق البصر﴾ أي : شخص ووقف لما يرى مما كان يكذب به هذا على قراءة نافع بفتح الراء وأما على قراءة كسرها فالمعنى : تحير ودهش مما يرى وقيل : هما لغتان في التحير والدهشة.
﴿وخسف القمر﴾ أي : أظلم وذهب ضوءه، وقد اشتهر أنّ الخسوف للقمر والكسوف للشمس. وقيل : يكونان فيهما، يقال : خسفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف. وقيل : الكسوف أوّله والخسوف آخره.
ولم تلحق علامة التأنيث في قوله تعالى ﴿وجمع الشمس والقمر﴾ لأنّ التأنيث مجازي، وقيل : لتغليب التذكير، وردّ لأنه لا يقال : قام هند وزيد عند الجمهور من العرب. وقال الكسائي : حمل على جمع النيران. وقال الفرّاء : لم يقل جمعت لأنّ المعنى : جمع بينهما قال الفرّاء والزجاج : جمع بينهما في ذهاب ضوئهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه. وقال
٤٩٣
ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرّنين كأنهما ثوران عقيران في النار، وقال عطاء بن يسار رضي الله عنه : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، وقيل : يجمعان في نار جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله تعالى ولا تكون النار عذاباً لهما، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم.
وقوله تعالى :﴿يقول الإنسان﴾ أي : لشدّة روعه جرياً مع طبعه جواب إذا من قوله تعالى ﴿فإذا برق البصر﴾. ﴿يومئذ﴾ أي : إذا كانت هذه الأشياء، وقوله تعالى :﴿أين المفرّ﴾ منصوب المحل بالقول والمفرّ مصدر بمعنى الفرار. قال الماوردي : ويحتمل وجهين : أحدهما : أين المفرّ من الله تعالى استحياء منه. والثاني : أين المفرّ من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه تعالى. والثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقيل : أبو جهل خاصة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩١
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع عن طلب المفرّ ﴿لا وزر﴾ أي : لا ملجأ ولا حصن استعير من الجبل. قال السدّي : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله تعالى لهم : لا وزر يعصمكم مني يومئذ واشتقاقه من الوزر وهو الثقل ﴿إلى ربك﴾ أي : المحسن إليك بأنواع الإحسان لا إلى شيء غيره ﴿يومئذ﴾ أي : إذ كانت هذه الأمور ﴿المستقر﴾ أي : استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لغيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا. وقال ابن مسعود : المصير والمرجع، قال الله تعالى ﴿إلى ربك الرجعى﴾ (العلق : ٨)
و ﴿إليه المصير﴾ (المائدة : ١٨)
وقال السدّي : المنتهى، نظيره ﴿وإنّ إلى ربك المنتهى﴾ (النجم : ٤٢)


الصفحة التالية
Icon