﴿ينبأ﴾ أي : يخبر تخبيراً عظيماً ﴿الإنسان يومئذ﴾ أي : إذا كان الزلزال الأكبر ﴿بما قدّم﴾ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم : بما قدّم قبل موته من عمل صالح وسيء ﴿وأخر﴾ بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. وقال ابن عطية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة، وقال قتادة : بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه. وقال مجاهد : بأوّل عمله وآخره. وقال عطاء : بما قدم في أوّل عمره وما أخر في آخر عمره. وقال يزيد بن أسلم : بما قدّم من أموال نفسه وما أخر خلفة للورثة، والأولى أن يقال ينبأ بجميع ذلك إذ لا منافاة بين هذه الأقوال.
﴿بل الإنسان﴾ أي : كل واحد من هذا النوع ﴿على نفسه﴾ أي : خاصة ﴿بصيرة﴾ أي : حجة بينة على أعماله والهاء للمبالغة يعني : أنه في غاية المعرفة بأحوال نفسه، فيشهد عليه بعمله سمعه وبصره وجوارحه قال الله تعالى :﴿كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً﴾ (الإسراء : ١٤)
قال البغوي : ويحتمل أن يكون معناه : بل للإنسان على نفسه يعني جوارحه، فحذف حرف الجر كقوله تعالى :﴿وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم﴾ (البقرة : ٣٣)
أي : لأولادكم، ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي : بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
﴿ولو ألقى﴾ أي : ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق
٤٩٤
والاهتمام والتملق. وقوله تعالى :﴿معاذيره﴾ جمع معذرة على غير قياس قاله الجلال المحلي. أي : لو جاء بكل معذرة ما قبلت منه. وقال الزمخشريّ : المعاذير ليس بجمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر ا. ه. قال أبو حيان : وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير ا. ه. وقيل : معاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى : ولو أرخى ستوره والمعاذير الستور بلغة اليمن قاله الضحاك. وحكى الماورديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :﴿ولو ألقى معاذيره﴾ أي : ولو تجرّد من ثيابه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩١
ولما كان ﷺ إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن ينفلت منه أمره الله تعالى بأن ينصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي الله تعالى وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩١
﴿لا تحرك به﴾ أي : بالقرآن ﴿لسانك﴾ ما دام جبريل عليه السلام يقرؤه ﴿لتعجل به﴾ أي : لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم السلام كما قال موسى عليه السلام :﴿وعجلت إليك ربّ لترضى﴾ (طه : ٨٤)
نقل ﷺ من مقام كامل إلى أكمل منه.
ثم علل النهي عن العجلة بقوله تعالى :﴿إنّ علينا﴾ أي : بما لنا من العظمة لا على أحد سوانا ﴿جمعه﴾ أي : في صدرك حتى تثبته وتحفظه ﴿وقرآنه﴾ أي : قراءتك إياه يعني جريانه على لسانك.
﴿فإذا قرأناه﴾ عليك بقراءة جبريل عليه السلام ﴿فاتبع﴾ أي : بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار قلبك ﴿قرآنه﴾ أي : قراءته مجموعة على حسب ما أداه رسولنا وجمعناه لك في صدرك، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة، ويصير لك خلقاً، فيكون قائدك إلى كل خير. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى :﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾ قال :"كان رسول الله ﷺ إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله تعالى الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة ﴿لا تحرّك به لسانك﴾الآية، فكان ﷺ إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق. فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى" قال سعيد بن جبير : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله ﷺ يحركهما فأنزل الله عز وجل الآية.
﴿ثم إن علينا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿بيانه﴾ أي : بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء أسمعته من جبريل عليه السلام على مثل صلصلة الجرس أم بكلام الناس المعتاد بالصوت والحروف، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمّتك، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة ؛ لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى، والمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنّ تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله تعالى، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها.
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ استفتاح بمعنى : ألا. وقال الزمخشري : ردع للنبيّ ﷺ عن عادة
٤٩٥
العجلة، وقال جماعة من المفسرين : حقاً، والأوّل جرى عليه الجلال المحلي وهو أظهر. ﴿بل يحبون﴾ متجدّدة على تجدد الزمان ﴿العاجلة﴾ بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها وحبها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه، فإنّ الآخرة والأولى ضرتان من تقرب من أحدهما لا بدّ من تباعده عن الأخرى، فإن حبك للشيء يعمي ويصم.


الصفحة التالية
Icon