إنا} أي : بما لنا من العظمة ﴿هديناه السبيل﴾ أي : بينا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشرّ ببعثة الرسل، وقال مجاهد رضي الله عنه : بينا له السبيل إلى السعادة والشقاوة. وقال السدّي رضي الله عنه : السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل : منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. قال الرازي : والآية تدل على أنّ العقل متأخر عن الحواس. قال : وهو كذلك.
وقوله تعالى :﴿إمّا شاكراً﴾ أي : لإنعام ربه عليه ﴿وإمّا كفوراً﴾ أي : بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب نصب على الحال وفيه وجهان : أحدهما : أنه حال من مفعول هديناه أي : هديناه مبيناً له كلتا حالتيه، والثاني : أنه حال من السبيل على المجاز. قال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي : عرّفناه السبيل إمّا سبيلاً شاكراً وإمّا سبيلاً كفوراً كقوله تعالى :﴿وهديناه النجدين﴾ (البلد : ١٠)
فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ قال :"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث، وعن جابر رضي الله عنه :"كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً".
ولما قسمهم إلى قسمين ذكر جزاء كل فريق فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٢
﴿إنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿أعتدنا﴾ أي : هيأنا وأحضرنا بشدّة وغلظة ﴿للكافرين﴾ أي : العريقين في الكفر خاصة وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل فقال تعالى :﴿سلاسلا﴾ جمع سلسلة أي : يقادون ويوثقون بها ﴿وأغلالاً﴾ أي : في أعناقهم تشد فيها السلاسل فتجمع أيديهم إلى أعناقهم ﴿وسعيراً﴾ أي : ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد.
وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي سلاسلاً وصلاً بالتنوين والباقون بغير تنوين وأما الوقف على الثانية فوقف عليها بغير ألف قنبل وحمزة، ووقف البزي وابن ذكوان وحفص بغير ألف وبالألف، ووقف الباقون بالألف ولا وقف على الأولى والرسم بالألف. أمّا من نوّن سلاسل فوجه
٥٠٥
بأوجه منها أنه قصد بذلك التناسب لأنّ ما قبله وما بعده منوّن منصوب. ومنها أن الكسائي وغيره من أهل الكوفة حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفضل منك. وقال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأنّ الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. وروي عن بعضهم أنه يقول : رأيت عمراً بالألف يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأيضاً هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً، قالوا صواحب وصواحبات. وفي الحديث :"إنكن صواحبات يوسف" ومنها أنه مرسوم في الإمام أي : مصحف الحجاز والكوفة بالألف، رواه أبو عبيدة ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف البصرة أيضاً.
وقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، والثاني : أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرّن لسانه على صرف غير المنصرف ا. ه. قال بعض المفسرين : وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة لا سيما على مشايخ الإسلام وأئمة العلماء الأعلام، وأما من لم ينوّنه فوجهه ظاهر لأنه على صيغة منتهى الجموع وقولهم : قد جمع نحو صواحبات لا يقدح لأنّ المحذور جمع التكسير، وهذا جمع تصحيح، وأما من لم يقف بالألف فواضح.
ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيداً للترتيب فقال تعالى :﴿إنّ الأبرار﴾ جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ أنه قال :"إنما سماهم الله تعالى الأبرار ؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق". وقال الحسن رضي الله عنه : البرّ الذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة رضي الله عنه : الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث "الأبرار الذين لا يؤذون أحداً".
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٥
يشربون من كأس﴾ هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض ﴿كان مزاجها﴾ أي : ما تمزج به ﴿كافوراً﴾ لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضاً كمام الشجر الذي هو ثمرتها، والكافر البحر، والكافر الليل، والكافر الساتر لنعم الله تعالى، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض، قال الشاعر :
*وكافر مات على كفره ** وجنة الفردوس للكافر*
٥٠٦