والكفارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور : ماء جوف الشجر مكفور فيغرزونه بالحديد فيخرج إلى ظاهر الشجر فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.
فإن قيل : مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره ؟
أجيب : بأوجه :
أحدها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الكافور اسم عين في الجنة يقال لها عين الكافور، أي : يمازجها ماء هذه العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرّته.
ثانيها : أنّ رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم فخلق الله تعالى تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب، فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون الكافور ريحها لا طعمها.
ثالثها : أنّ الله تعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه تعالى يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضارّ وقال سعيد عن قتادة رضي الله عنهم : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقيل : يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه فكأنها مزجت بالكافور.
وقوله تعالى :﴿عيناً﴾ في نصبه أوجه : أحدها : أنه بدل من ﴿كافوراً﴾ لأنّ ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرده واقتصر على هذا الجلال المحلي.
الثاني : أنه بدل من محل ﴿من كأس﴾ قاله مكي ولم يقدّر حذف مضاف، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال : كأنه قيل : يشربون خمراً خمر عين. الثالث : أنه نصب على الاختصاص قاله الزمخشري. الرابع : أنه بإضمار أعني قاله القرطبي، وقيل : غير ذلك.
﴿يشرب بها﴾ قال الجلال المحلي : منها. وقال البقاعي : أي : بمزاجها. وقال الزمخشري : بها الخمر، قال : كما تقول شربت الماء بالعسل والأوّل أوضح. ﴿عباد الله﴾ أي : أولياؤه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٥
فإن قيل : الكفار عباد الله وهم لا يشربون منها بالاتفاق ؟
أجيب : بأنّ لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ولكن يشكل بقوله تعالى :﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ (الزمر : ٧)
فإنه يصير تقدير الآية ولا يرضى لعبادة المؤمنين الكفر مع أنه سبحانه لا يرضى الكفر للكافر ولا لغيره، وقد يجاب بأنّ هذا أكثري لا كلي، أو يقال : حيث أضيف العباد أو العبد إلى اسم الله الظاهر سواء كان بلفظ الجلالة أم لا فالمراد به المؤمن، وإن أضيف إلى ضميره تعالى فيكون بحسب المقام، فتارة يختص بالمؤمن كقوله تعالى :﴿إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ (الحجر : ٤٢)
وتارة يعمّ كقوله تعالى :﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ وقوله تعالى :﴿نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم﴾ (الحجر : ٤٩)
﴿يفجرونها﴾ أي : يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم وإن علت ﴿تفجيراً﴾ سهلاً لا يمتنع عليهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٥
٥٠٧
ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى :﴿يوفون بالنذر﴾ وهذا يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً لكان مضمرة. قال الفراء : التقدير : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري : يوفون جواب من عسى يقول : ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان : واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى، وقال الكلبي :
﴿يوفون بالنذر﴾ أي : يتممون العهود لقوله تعالى :﴿وأفوا بعهد الله﴾ (النمل : ٩١)
﴿أوفوا بالعقود﴾ (المائدة : ١)
أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي : والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حدّه : هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه ﷺ قال :"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه".
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيءٍ بل لكرم الطبع. ﴿ويخافون﴾ أي : مع فعلهم للواجبات ﴿يوماً﴾ قال ابن عبد السلام : شرّ يوم أو أهوال يوم ﴿كان﴾ أي : كوناً هو في جبلته ﴿شرّه﴾ أي : ما فيه من الشدائد ﴿مستطيراً﴾ أي : فاشياً منتشراً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه : كان شرّه فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا : ما فارق الخوف قلباً إلا خرب، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٧