فإن قيل : لم قال تعالى :﴿كان شرّه﴾ ولم يقل سيكون ؟
أجيب : بأنه كقوله تعالى :﴿أتى أمر الله﴾ (النحل : ١)
فبما قيل في ذاك يقال هنا.
﴿ويطعمون الطعام﴾ أي : على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون، وقوله تعالى :﴿على حبه﴾ حال إما من الطعام أي : كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه، كما قال تعالى :﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ (آل عمران : ٩٢)
ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلاً، ولهذا قال ﷺ في حق الصحابة رضي الله عنهم :"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه" لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد، وإما
٥٠٨
من الفاعل والضمير في حبه لله أي : على حب الله وعلى التقديرين فهو مصدر مضاف للمفعول. وقال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطعام.
﴿مسكيناً﴾ أي : محتاجاً احتياجاً يسيراً فصاحب الاحتياج الكثير أولى ﴿ويتيماً﴾ أي : صغيراً لا أب له ﴿وأسيراً﴾ أي : في أيدي الكفار. وخص هؤلاء بالذكر لأنّ المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه عما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له وبقي عاجزاً عن الكسب لصغره، والأسير لا يتمكن لنفسه نصراً ولا حيلة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : الأسير المحبوس فيدخل في ذلك المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأنّ النبيّ ﷺ لما دفعهم إليهم قال :"استوصوا بهم خيراً". وقيل : الأسير المملوك، وقيل : المرأة لقول النبيّ ﷺ "اتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان" أي : أسرى.
وقوله تعالى :﴿إنما نطعمكم﴾ على إضمار القول أي : يقولون بلسان المقال أو الحال : إنما نطعمكم أيها المحتاجون ﴿لوجه الله﴾ أي : لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر بالوجه لأنّ الوجه يستحى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته ﴿لا نريد منكم﴾ لأجل ذلك ﴿جزاء﴾ أي : لنا من أعراض الدنيا ﴿ولا شكوراً﴾ أي : لشي من قول ولا فعل، روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٧
ثم عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم ﴿إنا نخاف من ربنا﴾ أي : الخالق لنا المحسن إلينا ﴿يوماً﴾ أي : أهوال يوم هو في غاية العظمة وبينوا عظمته بقولهم ﴿عبوساً﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولك : نهارك صائم روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدّته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.
﴿قمطريراً﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : طويلاً. وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم : القمطرير الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبس. وقال الكلبي : العبوس الذي لا انبساط فيه والقمطرير الشديد وقال الأخفش : القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاد يقال يوم قمطرير وقماطير إذا كان شديداً كريهاً.
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله تعالى سبب عنه جزاءهم فقال تعالى :﴿فوقاهم الله﴾ أي : الملك الأعظم بسبب خوفهم ﴿شر ذلك اليوم﴾ أي : العظيم ولا بدّ لهم من نعيم ظاهر وباطن
٥٠٩
ومسكن يقيمون فيه وملبس وقد أشار إلى الأوّل بقوله تعالى :﴿ولقاهم﴾ أي : أعطاهم ﴿نضرة﴾ أي : حسناً دائماً في وجوههم، وأشار إلى الثاني بقوله تعالى :﴿وسروراً﴾ أي : في قلوبهم دائماً في مقابلة خوفهم في الدنيا.


الصفحة التالية
Icon