وأشار إلى الثالث بقوله تعالى :﴿وجزاهم بما صبروا﴾ أي : بسبب ما أوجدوا من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الشهوات وبذل المحبوبات ﴿جنة﴾ أي : ادخلوا بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون وإن كان غيرهم يشاركهم في ذلك دونهم في الجزاء وأشار إلى الرابع بقوله تعالى :﴿وحريراً﴾ أي : ألبسوه أي : هو في غاية العظمة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن ابن عباس أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله ﷺ في ناس فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما صوم ثلاثة أيام إن برئا فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض عليّ من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة آصع من شعير وطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك زاد في الكشاف فلما أصبحوا أخذ عليّ رضي الله تعالى عنه بيد الحسن والحسين فأقبلوا إلى رسول الله ﷺ فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال : ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال : خذها يا محمد ـ أي : السورة ـ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة حديث موضوع.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٧
ثم بين حالهم فيها بقوله تعالى ﴿متكئين فيها﴾ أي : الجنة. واختلفوا في إعراب متكئين، فقال الجلال المحلي : حال من مرفوع ادخلوها المقدر. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالاً من المفعول في جزاهم وأن يكون صفة، واعترض عليه في كونه صفة بأنه لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم الضمير، فيقال : متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له وقيل : إنه من فاعل صبروا، واعترض أنّ الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة، وأجيب بأنه يصح أن يكون حالاً مقدرة لأنّ مآلهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة.
ثم أشار إلى زيادة راحتهم بقوله تعالى :﴿على الأرائك﴾ أي : السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة وقيل : الأرائك الفرش على السرر. وقوله تعالى :﴿لا يرون فيها﴾ أي : الجنة حال ثانية على الخلاف المتقدم في الأولى، ومن جوّز أن تكون الأولى صفة جوّزه في الثانية. وقيل : إنها حال من الضمير المرفوع المستكن في متكئين فتكون حالاً متداخلة. ﴿شمساً﴾ أي : حرًّا ﴿ولا﴾ يرون فيها ﴿زمهريراً﴾ أي : برداً شديداً فالآية من الاحتباك دل نفي الشمس أوّلاً على نفي القمر ودل نفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحرّ الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أنّ الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان إذ لا تكليف
٥١٠
فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائماً بخلاف الدنيا، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم، قال رسول الله ﷺ "اشتكت النار إلى ربها قالت : يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها" وقيل : الزمهرير القمر بلغة طيء، وأنشدوا :
*وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر*
ويروى ما ظهر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٧
﴿ودانية﴾ أي : قريبة مع الارتفاع ﴿عليهم ظلالها﴾ أي : شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية، فقال البغوي : عطف على متكئين. وقال الجلال المحلي : عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل، قال البيضاوي : أو عطف على جنة أي : وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى :﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرحمن : ٤٦)
. فإن قيل : إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل ؟
أجيب : بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث.


الصفحة التالية
Icon