﴿وذللت قطوفها﴾ جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي : المجنية ﴿تذليلاً﴾ أي : سهل تناولها تسهيلاً عظيماً لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً أو مضطجعين تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتفعت إليهم، وقال البراء : ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى.
ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى :﴿ويطاف﴾ أي : من أي طائف كان لكثرة الخدم ﴿عليهم بآنية﴾ جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي : يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى :﴿من فضة﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي : الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى : يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى :﴿سرابيل تقيكم الحرّ﴾ (النحل : ٨١)
أي : والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر.
ولما جمع الآنية خص فقال تعالى ﴿وأكواب﴾ جمع كوب، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة ﴿كانت﴾ أي : تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها ﴿قوارير﴾ أي : كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق، جمع
٥١١
قارورة وهي ما أقرّ فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل : هو خاص بالزجاج.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١١
ولما كان رأس آية وكان التعبير بالقوارير ربما أفهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال تعالى معيد للفظ أوّل الآية الثانية تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها :﴿قوارير من فضة﴾ أي : قد جمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه، وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقال الكلبي : إن الله تعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإنّ أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون منها. وقرأ نافع وشعبة والكسائي وصلاً بالتنوين فيهما ووافقهم ابن كثير في الأول دون الثاني، والباقون بغير تنوين، وأما الوقف فمن نون وقف بالألف، ومن لم ينون وقف بغير ألف إلا هشاماً، فإنه وقف على الثاني بالألف وفي الوصل لم ينون فالقراءات حينئذ على خمس مراتب : إحداها : تنوينهما معاً، والوقف عليهما بالألف. الثانية : مقابله وهو عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف، الثالثة : عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف، الرابعة : تنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها. الخامسة : عدم تنويهما معاً والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها. وأما من نوّنهما فلما مرّ في تنوين سلاسل ؛ لأنهما صيغة منتهى الجموع ذاك على مفاعل وذا على مفاعيل، والوقف بالألف التي هي بدل التنوين، فأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف فظاهر، وأما من نوّن الأول دون الثاني فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي، ولم يناسب بين الثاني وبين الأوّل، والوجه في وقفه على الأوّل بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر، وأما من لم ينوّنهما ووقف على الأوّل بألف وعلى الثاني بدونها فلأنّ الأوّل رأس آية فناسب بينه وبين رؤوس الأي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني لأنه ليس برأس آية، وأما من لم ينوّنهما ووقف عليهما بالألف، فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي وناسب بين الثاني وبين الأول.
وقال الزمخشري : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق ؛ لأنها فاصلة وفي الثاني لإتباعه الأوّل يعني : أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم، كقوله :
*يا صاح ما هاج العيون الذرفن*
وقوله تعالى ﴿قدّروها تقديراً﴾ صفة لقوارير من فضة وفي الواو في قدّروها وجهان : أحدهما : أنه للمطاف عليهم، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على تقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجاءت كما قدّروا. والثاني : أنه للطائفين بها دل عليه قوله تعالى :﴿ويطاف عليهم﴾ (الإنسان : ١٥)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١١
على أنهم قدّروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنه ولا يعجز، وعن مجاهد رضي الله عنه لا تغيض ولا تفيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما قدّروها على ملء الكف حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة.
﴿ويسقون﴾ أي : ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة ﴿فيها﴾ أي : في الجنة أو تلك الأكواب ﴿كأساً﴾ أي : خمراً في إناء ﴿كان مزاجها﴾ أي : ما تمزج به على غاية الإحكام
٥١٢


الصفحة التالية
Icon