تنبيه : معنى بين يدي الله ورسوله أي : بحضرتهما لأنّ ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وحقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً. كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة هنا على ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً.
وقيل : المراد بين يدي رسول الله ﷺ وذكر الله تعالى تعظيم له وإشعار بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله ﴿واتقوا الله﴾ اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإنّ التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره أو تقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه ﴿إن الله﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال ﴿سميع﴾ لأقوالكم ﴿عليم﴾ بأعمالكم.
ونزل فيمن رفع صوته عند النبيّ عليه الصلاة والسلام.
﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم﴾ أي : في شيء من الأشياء عند النطق إذا نطقتم ﴿فوق صوت النبيّ﴾ إذا نطق.
تنبيه : في إعادة النداء فوائد : منها أنّ في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه :﴿يا بنيّ لا تشرك بالله﴾ (لقمان : ١٣)، ﴿يا بنيّ إنها إن تك﴾ (لقمان : ١٦)، ﴿يا بنيّ أقم الصلاة﴾ (لقمان : ١٧)، لأنّ النداء تنبيه للمنادي ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو. فإذا أعاد مرة أخرى وقال : يا زيد قل يا زيد قل كذا وقل كذا يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيداً للأوّل كقولك : يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق وأنه لا يحسن أن يقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين ﴿ولا تجهروا له بالقول﴾ أي : إذا كلمتموه سواء كان ذلك مثل صوته أو أخفض من صوته، فإنّ ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء
٤٦
﴿كجهر بعضكم لبعض﴾ أي : ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ ﷺ وبين غيره.
فإن قيل : ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا ؟
أجيب : بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ ﷺ وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة. أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى :﴿أن﴾ أي : كراهة أن ﴿تحبط﴾ أي : تفسد فتسقط ﴿أعمالكم﴾ التي هي الأعمال بالحقيقة، وهي الحسنات كلها ﴿وأنتم لا تشعرون﴾ أي : بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا أجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر، روى أنس بن مالك قال :"لما نزل قوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم﴾ الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ ﷺ فسأل النبيّ ﷺ سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله ﷺ فقال ثابت : نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله ﷺ فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد لنبيّ ﷺ فقال بل هو من أهل الجنة".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٥
وروي لما نزلت هذه الآية "قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال : وما يبكيك يا ثابت. قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله ﷺ وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله ﷺ فأتى عاصم رسول الله ﷺ فأخبره خبره فقال : اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.
فقال له : إنّ رسول الله ﷺ يدعوك. فقال : اكسر الضبة فأتيا رسول الله ﷺ فقال له النبيّ ﷺ ما يبكيك يا ثابت فقال : أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله ﷺ أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة. فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل.


الصفحة التالية
Icon