فإن قيل : هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا ؟
أجيب : بأنه نوع آخر لوجوه : أولها : رفع. ثانيها : أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى :﴿وسقاهم ربهم شراباً طهوراً﴾ وذلك يدل على فضل هذا دون غيره، ثالثها : ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيراً عجيباً وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذاً بلقائه باقياً ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة.
وقوله تعالى :﴿إنّ﴾ على إضمار القول أي : ويقال لهم إنّ ﴿هذا كان لكم جزاء﴾ أي : على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم ﴿وكان﴾ أي : على وجه الثبات ﴿سعيكم مشكوراً﴾ أي : لا نضيع شيئاً منه ونجازي بأكثر منه أضعافاً مضاعفة.
ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى :﴿إنا نحن﴾ أي : على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا ﴿نزلنا عليك﴾ وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزَّل خلُقُاً لك ﴿القرآن﴾ أي : الجامع لكل هدى ﴿تنزيلاً﴾ قال ابن عباس : متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة.
قال الرازي : والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول ﷺ وشرح صدره فيما نسبوه إليه ﷺ من كهانة وسحر، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد : إنّ ذلك وحي حق وتنزيل
٥١٦
صدق من عندي. وفي ذلك فائدتان، الأولى : إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار، لأنّ الله تعالى عظمه وصدّقه. الثانية : تقويته على تحمل مشاق التكليف، فكأنه تعالى يقول له : إني ما نزلت القرآن عليك متفرّقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١٣
فاصبر لحكم ربك﴾
أي : المحسن إليك. قال ابن عباس : اصبر على أذى المشركين ثم نسخ بآية القتال. وقيل : اصبر لما يحكم عليك به من الطاعات أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة ﴿ولا تطع منهم﴾ أي : الكفرة الذين هم ضد الشاكرين ﴿آثماً﴾ أي : داعياً إلى إثم سواء كان مجرّداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له ﴿أو كفوراً﴾ أي : مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا، فإنّ الحق أكبر من كل كبير. وقال قتادة : أراد بالآثم والكفور أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبيّ ﷺ نهاه أبو جهل عنها وقال : لئن رأيت محمداً يصلي لأطأنّ على عنقه.
وقال مقاتل : أراد بالآثم عتبة بن ربيعة وبالكفور الوليد بن المغيرة، وكانا أتيا النبيّ ﷺ يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوّة عرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهما رسول الله ﷺ عشر آيات من أوّل حم السجدة إلى قوله تعالى :﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ (فصلت : ١٣)
فانصرفا عنه. وقال أحدهما : ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.
فإن قيل : كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله :﴿آثماً أو كفوراً﴾ أجيب : بأنّ معناه : ولا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه ؛ لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث.
ثم قال فإن قيل : معنى أو : ولا تطع أحدهما فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن إطاعتهما جميعاً ؟
أجيب : بأنه لو قال : ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل : ولا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما أنهى عن طاعتهما جميعاً كما إذا نهى أن يقول لأبويه : أف علم أنه نهى عن ضربهما بطريق الأولى.


الصفحة التالية
Icon