فإن قيل : إنه ﷺ ما كان يطيع أحداً منهم فما فائدة هذا النهي ؟
أجيب : بأنّ المقصود بيان أنّ الناس محتاجون إلى التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى النساء وأنّ الواحد لو استغنى عن توفيق الله تعالى وإرشاده لكان أحق الناس به هو رسول الله ﷺ المعصوم دائماً أبداً، ومتى ظهر لك ذلك عرفت أنّ كل مسلم لا بدّ له من الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه أن يصونه عن الشهوات.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١٣
واذكر﴾ أي : في الصلاة ﴿اسم ربك﴾ أي : المحسن إليك بكل جميل ﴿بكرة﴾ أي : الفجر ﴿وأصيلاً﴾ أي : الظهر والعصر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١٣
﴿ومن الليل﴾ أي : بعضه والباقي للراحة بالنوم ﴿فاسجد له﴾ أي : المغرب والعشاء ﴿وسبحه ليلاً طويلاً﴾ أي : صل التطوّع فيه كما تقدّم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه أو اذكره بلسانك بكرة عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جميعاً
٥١٧
وأصيلاً أي : عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين إشارة إلى دوام الذكر وذكر اسمه لازم لذكره والذي عليه أكثر المفسرين. الأوّل قال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة لأنّ الصلاة أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أركان لسانية وحركات وسكنات على هيئات مخصوصة من عادتها أن لا تفعل إلا بين يدي الملوك.
ولما خاطب رسول الله ﷺ بالتعظيم والأمر والنهي عدل سبحانه إلى شرح أحوال الكفار والمتمردّين فقال تعالى :﴿إنّ هؤلاء﴾ أي : الذين يغفلون عن الله من الكفار والمتمردّين ﴿يحبون﴾ أي : محبة تجدّد عندهم زيادتها في كل وقت ﴿العاجلة﴾ لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور ومعدن الأمراض للقلوب التي في الصدور، ومن تعاطى أسباب الأمراض مرض وسمي كفوراً، ومن تعاطى ضدّ ذلك شفي وسمي شاكراً.
﴿ويذرون﴾ أي : ويتركون ﴿وراءهم﴾ أي : قدّامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به وقوله تعالى :﴿يوماً﴾ مفعول يذرون لا ظرف وقوله تعالى :﴿ثقيلاً﴾ وصف له استعير له الثقل لشدّته وهو له من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.
﴿نحن خلقناهم﴾ أي : بما لنا من العظمة لا غيرنا ﴿وشددنا﴾ أي : قوّينا ﴿أسرهم﴾ أي : توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق عظامهم بالأعصاب بعد أن كانوا نطفاً أمشاجاً في غاية الضعف. وأصل الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقدّ وهو الإسار، وفرس مأسور الخلق ﴿وإذا شئنا﴾ أي : بما لنا من العظمة أن نبدّل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم ﴿بدّلنا أمثالهم﴾ أي : جئنا بأمثالهم بدلاً منهم إمّا بأن نهلكهم ونأتي ببدلهم ممن يطيع، وإمّا بتغيير صفاتهم كما شوهد في بعض الأوقات من المسخ وغيره، وقوله تعالى :﴿تبديلاً﴾ تأكيد. قال الجلال المحلي : ووقعت إذا موقع إن، نحو ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ (النساء : ١٣٣)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١٧
لأنه تعالى لم يشأ ذلك وإذاً لما يقع. وفي ذلك رد لقول الزمخشري : وحقه أن يجيء بإن لا بإذا كقوله :﴿وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم﴾ (محمد : ٣٨)
﴿إن يشأ يذهبكم﴾ (النساء : ١٣٣)
﴿إن هذه﴾ أي : السورة أو الآيات القريبة ﴿تذكرة﴾ أي : عظة للخلق فإنّ في تصفحها تنبيهات للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر قلبه وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه ﴿فمن شاء﴾ أي : بأن اجتهد في وصوله إلى ربه ﴿اتخذ﴾ أي : أخذ بجهده في مجاهدة نفسه ومغالبة هواه ﴿إلى ربه﴾ أي : المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع جوارحه وقلبه ويجتهد في القرب منه ﴿سبيلاً﴾ أي : طريقاً واضحاً سهلاً واسعاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع الفهم، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئتنا.
﴿وما تشاؤون﴾ أي : في وقت من الأوقات شيئاً من الأشياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المدّ والقصر، وله أيضاً إبدالها واواً مع المدّ والقصر ﴿إلا﴾ وقت ﴿أن يشاء الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الأمر كله والملك كله على حسب ما يريد ويقدر وقد صح بهذا ما قال الأشعري وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى، وانتفى مذهب القدرية الذين
٥١٨
يقولون : إنا نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين : لا فعل لنا أصلاً، ومثل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدّد سكينة وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه، ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها ما لا يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعبد كالسكين خلقه الله تعالى وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال : أنا أخلق فعلي مستقلاً به فهو كمن قال : السكين تقطع بمجرّد وضعها من غير تحامل، ومن قال : الفاعل هو الله من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال : هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول : إنه باشر بقدرته المهيأة لفعل يخلقه الله تعالى لها في ذلك الفعل، كمن قال : إنّ السكين قطعت بالتحامل عليها بهذا أجرى الله سبحانه وتعالى عادته في الناس ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أنّ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١٧
ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم بقوله تعالى ﴿إنّ الله﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿كان﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي : بما يستأهل كل أحد ﴿حكيماً﴾ أي : بالغ الحكمة فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشرّ ساقه إليه وحمله عليه وهو معنى قوله تعالى :﴿يدخل من يشاء﴾ أي : ممن علمه من أهل السعادة ﴿في رحمته﴾ أي : جنته وهم المؤمنون. وقوله تعالى ﴿والظالمين﴾ أي : الكافرين منصوب بفعل يفسره قوله تعالى :﴿أعدّ لهم﴾ مثل أوعد وكافأ ليطابق الجمل المعطوف عليها ﴿عذاباً أليماً﴾ أي : مؤلماً فهم فيه خالدون أبد الآبدين.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : إنه ﷺ قال :"من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً" حديث موضوع.
٥١٩
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥١٧