﴿فالملقيات ذكراً﴾ أي : الملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل : هو جبريل عليه السلام وحده سمي باسم الجمع تعظيماً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٠
فإن قيل : ما المناسبة على هذا بين الرياح والملائكة في القسم ؟
أجيب : بأنّ الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.
وقيل : المراد به الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم، وذكراً مفعول به ناصبه الملقيات.
﴿عذراً أو نذراً﴾ مصدران من عذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوّف على فعل كالكفر والشكر. ويجوز أن يكون جمع عذير بمعنى المعذور، وجمع نذير بمعنى الإنذار، وبمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما إمّا على البدل من ذكراً على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له، وإمّا على الوجه الثالث، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرأ ﴿أو نذراً﴾ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بضم الذال والباقون بسكونها.
وقوله تعالى :﴿إنما توعدون لواقع﴾ جواب القسم، ومعناه أنّ الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وقال الكلبي : المراد أنّ كل ما توعدون به من الخير والشرّ لواقع.
ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى :﴿فإذا النجوم﴾ أي : على كثرتها ﴿طمست﴾ أي : محي نورها أو ذهب نورها ومحقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى :﴿انتثرت﴾ (الإنفطار : ٢٠)
و ﴿انكدرت﴾ (التكوير : ٢)
قال الزمخشري : ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور.
﴿وإذا السماء﴾ أي : على عظمها ﴿فرجت﴾ أي : فتحت وشققت فكانت أبواباً، والفرج الشق ونظيره ﴿إذا السماء انشقت﴾ (الانشقاق : ١)
٥٢١
﴿وإذا الجبال﴾ أي : على صلابتها ﴿نسفت﴾ أي : ذهب بها كلها بسرعة من نسفت الشيء : إذا اختطفته، أو نسفت كالحب إذا نسف بالمنسف، ونحوه ﴿وبست الجبال بساً﴾ (الواقعة : ٥)
﴿وكانت الجبال كثيباً مهيلاً﴾ (المزمل : ١٤)
﴿وإذا الرسل﴾ أي : الذين أنذروا الناس ذلك اليوم فكُذبوا ﴿أقتت﴾ قال مجاهد والزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم، أي : جمعت لميقات يومٍ معلومٍ وهو يوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى : جعل لها وقت أجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كقوله تعالى :﴿يوم يجمع الله الرسل﴾ (المائدة : ١٠٩)
. وقرأ أبو عمرو بواو مضمومة والباقون بهمزة مضمومة وهما لغتان، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم : وكدت وأكدت.
وقوله تعالى :﴿لأي يوم﴾ أي : عظيم متعلق بقوله تعالى :﴿أجلت﴾ وهذه الجملة معمولة لقول مضمر أي : يقال لأي يوم أجلت، وهذا القول المضمر يجوز أن يكون جواباً لإذا وأن يكون حالاً من مرفوع.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٠
أقتت﴾ أي : مقولاً فيها لأي يوم أجلت أي : أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم وتعجيب له وقوله تعالى :﴿ليوم الفصل﴾ بيان ليوم التأجيل. وقيل : اللام بمعنى إلى، ذكره مكي. قال ابن عباس : يوم فصل الرحمن بين الخلائق كقوله تعالى :﴿إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين﴾ (الدخان : ٤٠)
ثم أتبع هذا التعظيم تعظيماً آخر بقوله تعالى :﴿وما أدراك ما يوم الفصل﴾ أي : ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله في شدّته ومهابته، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين والباقون بالفتح.
ثم أتبعه تهويلاً ثالثاً بقوله تعالى :﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ يكون يوم الفصل ﴿للمكذبين﴾ أي : بذلك، قال القرطبي : ويل عذاب وخزي لمن كذب بالله تعالى وبرسله وكتبه وبيوم الفصل، وهو وعيد وكرّره في هذه السورة عند كل آية كأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإنّ لكل مكذب بشيء عذاباً سوى عذاب تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرماً من تكذيبه لغيره ؛ لأنه أقبح في تعظيمه وأعظم في الردّ على الله تعالى، وإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه، وهو قوله تعالى :﴿جزاء وفاقاً﴾ (النبأ : ٢٦)
. وقيل : كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد، وروي عن النعمان بن بشير قال : ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب، وقاله ابن عباس وغيره، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال :"عرضت عليّ جهنم فلم أر فيها وادياً أعظم من الويل"، وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أنّ شرّ المواضع ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات والجيف وماء الحمامات، فذكر أنّ الوادي مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتناً.
تنبيه : ويل مبتدأ، وسوّغ الابتداء به الدعاء، ويومئذ ظرف للويل وللمكذبين خبره. وقال الزمخشري : فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ ؟
قلت : هو في أصله مصدر منصوب ساد مسدّ فعله
٥٢٢
لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه ﴿سلام عليكم﴾ (الرعد : ٢٤)