واعترض بأنّ الذي ذكره ليس من المسوّغات التي ذكرها النحويون، وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٠
﴿ألم نهلك﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿الأوّلين﴾ من لدن آدم عليه السلام إلى زمن محمد ﷺ كقوم نوح وعاد وثمود بتكذيبهم أي : أهلكناهم ﴿ثم نتبعهم الآخرين﴾ أي : ممن كذبوا ككفار مكة فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين ونسلك بهم سبيلهم ؛ لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.
﴿كذلك﴾ أي : مثل ذلك الفعل الشنيع ﴿نفعل بالمجرمين﴾ أي : بكل من أجرم فيما يستقبل إمّا بالسيف وإمّا بالهلاك.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ يوجد ذلك الفعل ﴿للمكذبين﴾ أي : بآيات الله وأنبيائه، قال البيضاوي : فليس تكراراً وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد لأنّ الويل الأوّل بعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.
﴿ألم نخلقكم﴾ أي : أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تغيرها عظمة ﴿من ماء مهين﴾ أي : ضعيف حقير وهو المني، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار وهو من وجهين : الأوّل : أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكل ما كان نعمه عليه أكثر كان جنايته في حقه أقبح وأفحش. الثاني : أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم :﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ وهذه الآية نظير قوله تعالى :﴿ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين﴾ (السجدة : ٨)
. وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضاً إدغام الصفة مع الحذف.
﴿فجعلناه﴾ أي : بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم ﴿في قرار﴾ أي : مكان ﴿مكين﴾ أي : حريز وهو الرحم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٣
إلى قدر معلوم﴾
أي : وهو وقت الولادة، كقوله تعالى :﴿إن الله عنده علم الساعة﴾ إلى قوله :﴿ويعلم ما في الأرحام﴾ (لقمان : ٣٤)
﴿فقدرنا﴾ أي : ذلك دون غيرنا ﴿فنعم القادرون﴾ نحن، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى : فقدّرناه والباقون بالتخفيف، وقال عليّ كرم الله وجهه : ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحداً ؛ لأنّ العرب تقول : قدر وقدرعليه الموت.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ كان ذلك ﴿للمكذبين﴾ أي : بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.
وقوله تعالى :﴿ألم نجعل﴾ أي : نصير بما شئنا بما لنا من العظمة ﴿الأرض كفاتاً﴾ مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة.
﴿أحياء﴾ أي : على ظهرها في الدور وغيرها ﴿وأمواتاً﴾ أي : في بطنها في القبور وغيرها. وقيل : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي : الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت، وقيل : كفاتاً جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم، وقال الخليل : تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم، أي : انقلبوا، فمعنى
٥٢٣
الكفات أنهم يتصرّفون على ظهرها وينقلبون إليها فيدفعون فيها.
﴿وجعلنا﴾ أي : بما لنا من القدرة التامّة ﴿فيها﴾ أي : الأرض ﴿رواسي﴾ أي : جبالاً لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن ﴿شامخات﴾ أي : مرتفعات جمع شامخ وهو المرتفع جدّاً، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبر، جعل كناية عن ذلك كثنى العطف وصعر الخدّ، كما قال لقمان لابنه :﴿ولا تصعر خدّك للناس﴾ (لقمان : ١٨)
﴿وأسقيناكم﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ماء﴾ أي : من الأنهار والعيون والغدران والآبار وغير ذلك ﴿فراتاً﴾ أي : عذباً تشربون منه ودوابكم وتسقون منه زرعكم، وهذه الأمور أعجب من البعث، روي في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ تقوم الساعة ﴿للمكذبين﴾ أي : بأمثال هذه النعم.
وقوله تعالى :﴿انطلقوا﴾ على إرادة القول، أي : يقال للمكذبين يوم القيامة : انطلقوا. ﴿إلى ما كنتم به تكذبون﴾ من العذاب يعني : النار فقد شاهدتموها عياناً.
﴿انطلقوا إلى ظل﴾ أي : ظل دخان جهنم لقوله تعالى :﴿وظل من يحموم﴾ (الواقعة : ٤٣)
. ﴿ذي ثلاث شعب﴾ أي : تشعب لعظمه كما يرى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب. وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظللهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش، وقيل : إن الشعب الثلاث : هي الضريع والزقوم والغسلين ؛ لأنها أوصاف النار وقوله تعالى :﴿لا ظليل﴾ أي : كنين يظلهم من حرّ ذلك اليوم تهكم بهم وردّ لما يوهم لفظ الظل. ﴿ولا يغني﴾ أي : ولا يردّ عنهم شيئاً ﴿من اللهب﴾ أي : لهب النار، فليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. واللهب ما يعلو على النار إذا اضطربت من أحمر وأصفر وأخضر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٣


الصفحة التالية
Icon