إنها} أي : النار ﴿ترمي﴾ أي : من شدّة الاشتعال ﴿بشرر﴾ وهو ما تطاير من النار ﴿كالقصر﴾ أي : كل شررة كالقصر من البناء في عظمه وارتفاعه. قال ابن مسعود : يعني الحصون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ترمي بشرر كالقصر﴾ قيل : هي الخشب العظام المقطعة، قال : وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخرها للشتاء فكنا نسميها القصر. وقال سعيد بن جبير والضحاك : هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل جمرة وجمر.
وقوله تعالى :﴿كأنه﴾ أي : الشرر ﴿جمالات﴾ قرأه حمزة والكسائي وحفص بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف على الجمع، جمع جمالة وهي التي قرأ بها أوّلاً وهي جمع جمل مثل حجارة وحجر. وقوله تعالى :﴿صفر﴾ جمع أصفر أي : في هيئتها ولونها. وفي الحديث "شرار النار أصفر كالقير" والعرب تسمي سود الإبل صفراً لشوب سوادها بصفرة، فقيل : صفر في الآية بمعنى سود لما ذكروا في شعر عمران بن حطان الخارجي :
*دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ** بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى*
٥٢٤
قال الترمذيّ : وهذا القول ضعيف ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب ممن قد قال هذا. وقد قال الله تعالى :﴿جمالات صفر﴾ فلا نسلم من هذا شيئاً في اللغة. وقيل : شبه الشرر بالجمالات لسرعة سيرها، وقيل : لمتابعة بعضها بعضاً.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ يكون ذلك ﴿للمكذبين﴾ أي : بهذه الأمور العظام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٣
﴿هذا﴾ أي : يوم القيامة ﴿يوم لا ينطقون﴾ أي : بشيء من فرط الدهشة والحيرة، وهذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح وهذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة يوم طويل ذو مواطن ومواقيت ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ولذلك ورد الأمر أن في القرآن الكريم ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون.
وروى عكرمة أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى :﴿هذا يوم لا ينطقون﴾ و﴿لا تسمع إلا همساً﴾ (طه : ١٠٨)
و ﴿أقبل بعضهم على بعض يتساءلون﴾ (الصافات : ٢٧)
فقال : إنّ الله تعالى يقول :﴿وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون﴾ (الحج : ٤٧)
فإنّ لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان. وقال الحسن : فيه إضمار أي : هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة، فجعل نطقهم كلا نطق لأنه لا ينفع ولا يسمع، ومن نطق بما لا ينفع فكأنه ما نطق كما يقال لمن تكلم بكلام لا يفيد : ما قلت شيئاً. وقيل : إنّ هذا وقت جوابهم ﴿اخسؤوا فيها ولا تكلمون﴾ (المؤمنون : ١٠٨)
﴿ولا يؤذن لهم﴾ أي : في العذر وقوله تعالى :﴿فيعتذرون﴾ عطف على يؤذن من غير تسبب عنه فهو داخل في حيز النفي أي : لا إذن فلا اعتذار.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ كان هذا الموقف ﴿للمكذبين﴾ أي : الذين لا تقبل منهم معذرة.
﴿هذا يوم الفصل﴾ وهذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم أي : يقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق فيتبين المحق من المبطل ﴿جمعناكم﴾ أيها المكذبون من هذه الأمّة بما لنا من العظمة ﴿والأوّلين﴾ من المكذبين قبلكم فتحاسبون وتعذبون جميعاً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : جمع الذين كذبوا محمداً ﷺ والذين كذبوا النبيين من قبل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٥
وقوله تعالى :﴿فإن كان لكم كيد﴾ أي : حيلة في دفع العذاب عنكم ﴿فكيدون﴾ أي : فاحتالوا لأنفسكم وقاوون، ولن تجدوا ذلك تقريع لهم على كيدهم لدين الله تعالى وذويه وتسجيل عليهم بالعجب، وقيل : إنّ ذلك من قول النبيّ ﷺ فيكون كقول هود عليه السلام ﴿فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون﴾ (هود : ٥٥)
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابهم ﴿للمكذبين﴾ أي : الراسخين في التكذيب في ذلك.
٥٢٥
ثم ذكر ضد المكذبين بقوله تعالى :﴿إنّ المتقين﴾ أي : الذين اتقوا الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين ﴿في ظلال﴾ أي : تكاثف أشجار إذ لا شمس يظل من حرّها ﴿وعيون﴾ أي : من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى :﴿فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى﴾ (محمد : ١٥)
. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين والباقون بكسرها.
﴿وفواكه مما يشتهون﴾ في هذا إعلام بأن المأكل والمشرب في الجنة بحسب شهواتهم بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب.
وقوله تعالى :﴿كلوا واشربوا﴾ في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي : هم مستقرّون في ظلال مقولاً لهم ذلك.
وقوله تعالى :﴿هنيئاً﴾ حال أي : متهنئين ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كنتم تعملون﴾ من طاعات الله تعالى.