﴿إنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿كذلك﴾ أي : كما جزينا المتقين هذا الجزاء العظيم ﴿نجزي المحسنين﴾ أي : نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد ﷺ وأعمالهم في الدنيا.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين ﴿للمكذبين﴾ أي : يمحض لهم العذاب المخلد ضدّ النعيم المؤبد.
وقوله تعالى :﴿كلوا وتمتعوا﴾ خطاب للكفار في الدنيا ﴿قليلاً﴾ أي : من الزمان وغايته إلى الموت وهو زمان قليل لأنه زائل مع قصر مدّته في زمن الآخرة وفي هذا تهديد لهم، ويجوز أن يكون ذلك خطاباً لهم في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد، وهذا ما جرى عليه الزمخشري أوّلاً وذكر الأول ثانياً، واقتصر الجلال المحلي على ما ذكرته أولاً وهو أولى. قال بعض العلماء : التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٥
ثم علل ذلك مؤكداً بقوله تعالى لأنهم ينكرون وصفهم بذلك :﴿إنكم مجرمون﴾ ففيه دلالة على أنّ كل مجرم يتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ تعذبون بإجرامكم ﴿للمكذبين﴾ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
﴿وإذا قيل لهم﴾ أي : لهؤلاء المجرمين من أي : قائل كان ﴿اركعوا﴾ أي : صلوا الصلاة التي فيها الركوع كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وأطلقوه عليها تسمية لها باسم جزئها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة ولأنه خاص بصلاة المسلمين ﴿لا يركعون﴾ أي : لا يصلون، قال الرازي : وهذا ظاهر لأنّ الركوع من أركانها، فبين تعالى أنّ هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ويجوز أن يكون اركعوا بمعنى اخشعوا وتواضعوا لله بقبول وحيه واتباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على
٥٢٦
استكبارهم، وأن يكون بمعنى اركعوا في الصلاة إذ روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله ﷺ بالصلاة فقالوا : لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال ﷺ "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود". قال في القاموس : جبى تجبية وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبية أن تقوم قيام الراكع. واستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة ؛ لأنّ الله تعالى ذمهم حال كفرهم، وعلى أنّ الأمر للوجوب لأنّ الله تعالى ذمهم بمجرّد ترك المأمور به، وهو يدل على أنّ الأمر للوجوب.
فإن قيل : إنما ذمهم لكفرهم. أجيب بأنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لتركهم المأمور به.
وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.
﴿ويل يومئذ﴾ أي : إذ يكون الفصل ﴿للمكذبين﴾ أي : بما أمروا به.
قال الرازي : إنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بهذه الوجوه العشرة المذكورة وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل القطعية مع تجليها ووضوحها ﴿فبأي حديث بعده﴾ أي : القرآن ﴿يؤمنون﴾ أي : لا يمكن إيمانهم بغيره من كتب الله تعالى بعد تكذيبهم به لاشتماله على الإعجاز الذي لم يشتمل عليه غيره، واستدل بعض المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن حادث لأن الله تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً. وأجيب : بأن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاع في أنها محدثة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٥
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : إنّ النبيّ ﷺ قال :"من قرأ سورة والمرسلات كتب الله تعالى له أنه ليس من المشركين" حديث موضوع.
٥٢٧
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٥


الصفحة التالية
Icon