سورة عم يتساءلون
وتسمى سورة النبأ مكية وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية ومائةوثلاثة وسبعون كلمة وسبعمائة وسبعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي له الملك كله ﴿الرحمن﴾ الذي عم الوجود بفضله ﴿الرحيم﴾ الذي تمحضت أولياؤه جنته. وقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٧
﴿عم﴾ أصله عن ما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما، كقوله فيم واستعمال الأصل قليل. ومنه قول حسان :
*على ما قام يشتمني لئيم ** كخنزير تمرّغ في رماد*
ومعنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن كأنه قال عن أي شيء ﴿يتساءلون﴾، ونحوه قولك : زيد ما زيد جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره كما تقول : ما الغول، وما العنقاء تريد أي شيء هو من الأشياء هذا أصله، ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية، ولذا لما وقف البزي ألحق الميم هاء
٥٢٨
السكت بخلاف عنه، والضمير في يتساءلون لأهل مكة، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم. وذلك أن النبيّ ﷺ لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون : ماذا جاء به محمد، ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء، وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً وكانوا جميعاً يتساءلون عنه، أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء.
ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا ؟
فقال تعالى :﴿عن النبأ العظيم﴾ قال مجاهد والأكثرون : هو القرآن، دليله قوله تعالى :﴿قل هو نبأ عظيم﴾ (ص : ٦٧)
وقال قتادة : هو البعث.
فإن قيل : إذا كان الضمير يرجع للكافر، فكيف يكون قوله تعالى :﴿الذي هم﴾ أي : بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوى الضمائر ﴿فيه مختلفون﴾ مع أنّ الكفار كانوا متفقين على إنكار البعث ؟
أجيب : بأنا لا نسلم اتفاقهم على ذلك بل كان فيهم من يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني فمنهم من يقطع القول بإنكاره ومنهم من يشك، وأما إذا كان المتساءل عنه القرآن فقد اختلفوا فيه كثيراً وقيل : المتساءل عنه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٨
وقوله تعالى :﴿كلا﴾ ردع للمتسائلين هزؤاً، ﴿سيعلمون﴾ ما يحل بهم على إنكارهم له.
وقوله تعالى :﴿ثم كلا سيعلمون﴾ تأكيد وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشدّ من الأول. وقال الضحاك : الأولى للكفار والثانية للمؤمنين، أي : سيعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث بقوله تعالى :﴿ألم نجعل﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿الأرض مهاداً﴾ أي : فراشاً كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه تسمية للممهود بالمصدر كضرب الأمير.
﴿والجبال﴾ أي : التي تعرفون شدّتها وعظمها. ﴿أوتاداً﴾ أي : تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد، والاستفهام للتقرير، فيستدل بذلك على قدرته على جميع الممكنات. وإذا ثبت ذلك ثبت القول بصحة البعث، وإنه قادر على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة.
تنبيه : مهاداً مفعول ثان لأنّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فتكون حالاً مقدّرة.
﴿وخلقناكم﴾ أي : بما دل على ذلك من مظاهر العظمة ﴿أزواجاً﴾ أي : أصنافاً ذكوراً وإناثاً وقيل : ألواناً.
﴿وجعلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿نومكم سباتاً﴾ أي : راحة لأبدانكم. قال الزجاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه. وقيل : معناه جلعنا نومكم قطعاً لأعمالكم وقيل : المسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيتين.
وقوله تعالى :﴿وجعلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿الليل﴾ أي : بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن ﴿لباساً﴾ فيه استعارة أي : يستركم عن العيون بظلمته كما إذا أردتم هرباً من عدوّ أو بياتاً له
٥٢٩
أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر :
*وكم لظلام الليل عندي من يد ** تخبر أنّ المانوية تكذب*
ولما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً فقال تعالى :﴿وجعلنا﴾ أي : بما لنا من القدرة التامّة ﴿النهار﴾ أي : الذي آيته الشمس ﴿معاشاً﴾ أي : حياة تبعثون فيه عن نومكم، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشاً على هذا اسم زمان.
﴿وبنينا﴾ بما لنا من الملك التامّ ﴿فوقكم سبعاً﴾ أي : سبع سماوات وقوله تعالى :﴿شداداً﴾ جمع شديدة أي : قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى :﴿وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً﴾ (الأنبياء : ٣٢)
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٨
وجعلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا ﴿سراجاً﴾ أي : منيراً متلألئاً ﴿وهاجاً﴾ أي : وقاداً وهي الشمس.
﴿وأنزلنا﴾ أي : بما لنا من كمال الأوصاف ﴿من المعصرات﴾ أي : السحاب إذا أعصرت أي : شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك : أجز الزرع أي : حان أن يجز، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.