وعن الحسن وقتادة : هي السماوات، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السموات عصرن. وقيل : من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل : الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه. ﴿ماء ثجاجاً﴾ أي : منصباً بكثرة يقال : ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث :"أفضل الحج العج والثج" أي : رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجاً يسيل غرباً، يعني : يثج الكلام ثجاً في خطبته.
﴿لنخرج﴾ أي : بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب ﴿به﴾ أي : بذلك الماء ﴿حباً﴾ أي : نجماً ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز ﴿ونباتاً﴾ أي : ما يعتلف به كالتبن والحشيش، كما قال تعالى :﴿كلوا وارعوا أنعامكم﴾ (طه : ٥٤)
﴿والحب ذو العصف والريحان﴾ (الرحمن : ١٢)
﴿وجنات﴾ أي : بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره ﴿ألفافاً﴾ أي : ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف.
وقيل : هو جمع الجمع، يقال : جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل : لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل : الواحد لف. قال صحاب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي :
*جنة لف وعيش مغدق ** وندامى كلهم بيض زهر*
وقال الزمخشري : ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً.
٥٣٠
﴿إن يوم الفصل﴾ أي : بين الخلائق ﴿كان﴾ أي : في علم الله تعالى وفي حكمه كوناً لا بدّ منه ﴿ميقاتاً﴾ أي : وقتاً للثواب والعقاب، أو وقتاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٨
وقوله تعالى :﴿يوم ينفخ في الصور﴾ أي : القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له، والنافخ إسرافيل عليه السلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك ﴿فتأتون﴾ أي : بعد القيام من القبور إلى الموقف ﴿أفواجاً﴾ أي : جماعات مختلفة.
وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله ﷺ فقال :"يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكياً، وقال : تحشر عشرة أصناف من أمّتي، بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
ثم فسر هؤلاء بقوله : فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني : النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا، واما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم فعلهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء" ا. ه. وقد تكلم في صحة هذا الحديث نعوذ بالله تعالى من هؤلاء ونسأله التوفيق لنا ولأحبابنا، فإنه كريم جواد لا يردّ من سأله.
﴿وفتحت السماء﴾ أي : شققت لنزول الملائكة ﴿فكانت أبواباً﴾ فإن قيل : هذه الآية تقتضي أنّ السماء بجملتها تصير أبواباً ؟
أجيب : بوجوه أوّلها : أنّ تلك الأبواب لما كثرت صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة، كقوله تعالى :﴿وفجرنا الأرض عيوناً﴾ (القمر : ١٢)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣١
كأنّ كلها عيون تتفجر. ثانيها : أنه على حذف مضاف، أي : فكانت ذات أبواب. ثالثها : أن الضمير في قوله تعالى :﴿فكانت أبواباً﴾ يعود إلى مضمر، والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً، وقيل : الأبواب الطرق والمسالك أي : تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف التاء بعد الفاء والباقون بتشديدها.
﴿وسيرت الجبال﴾ أي : ذهب بها عن أماكنها ﴿فكانت سراباً﴾ أي : لا شيء كما أنّ السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء، قال الرازي : إنّ الله تعالى ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى :﴿وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة﴾ (الحاقة : ١٤)
والحالة الثانية : أن تصير كالعهن المنفوش وهو قوله تعالى :﴿وتكون الجبال كالعهن المنفوش﴾ (القارعة : ٥)
والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى :
٥٣١
﴿وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً﴾ (الواقعة : ٥ ـ ٦)