الحالة الرابعة : أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدّمة قارة في مواضعها فترسل عليها الرياح فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيرها في الهواء وهو قوله تعالى :﴿ويسئلونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفاً﴾ (طه : ١٠٥)
الحالة الخامسة : أن تصير سراباً أي : لا شيء كما يرى السراب من بعد. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار.
﴿إنّ جهنم﴾ أي : النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون ﴿كانت مرصاداً﴾ أي : ترصد الكفار أو موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مرورهم عليها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا فيقال : انظروا إن كان له تطوّع أكملوا أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
وأما الكافر فهو مستمرّ فيها كما قال تعالى :﴿للطاغين﴾ أي : الكافرين ﴿مآبا﴾ أي : مرجعاً يرجعون إليه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣١
وقرأ حمزة ﴿لابثين فيها﴾ بغير ألف بين اللام والباء الموحدة والباقون بألف وهما لغتان والأولى أبلغ قاله البيضاوي.
وقوله تعالى :﴿أحقاباً﴾ جمع حقب والحقب الواحد ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة، روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مجاهد : الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً. وقال الحسن : إنّ الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدّة بل قال :﴿لابثين فيها أحقاباً﴾ فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدّة إلا الخلود، روي عن عبد الله أنه قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا و لو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا. وقال مقاتل بن حبان : الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة. قال : وهذه الآية منسوخة نسختها ﴿فلن نزيدكم إلا عذاباً﴾ يعني : أنّ العدد قد ارتفع والخلود قد دخل وعلى تقدير عدم النسخ فهو من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ويجوز أن يراد ﴿لابثين فيها أحقاباً﴾.
﴿لا يذقون﴾ أي : غير ذائقين ﴿فيها﴾ أي : النار ﴿برداً ولا شراباً﴾ ﴿إلا حميماً وغساقاً﴾ ثم يبدّلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فيتنصب حالاً عنهم يعني : لابثين فيها حقبين جهدين، وقوله تعالى :﴿لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً﴾ تفسير له والاستثناء منقطع يعني : لا يذوقون فيها برداً. قال عطاء والحسن : أي : راحة وروحاً، أي : ينفس عنهم حرّ النار ولا شراباً يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً أي : ماء حارًّا غاية الحرارة وغساقاً وهو ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه وروي عن ابن عباس
٥٣٢
رضي الله تعالى عنهما أنّ البرد النوم ومثله، قال الكسائي وأبو عبيدة : تقول العرب منع البرد البرد أي : أذهب البرد النوم، قال الشاعر :
*فلو شئت حرمت النساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا*
وقرأ حمزة والكسائيّ وجعفر بتشديد السين والباقون بتخفيفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده.
جوزوا بذلك ﴿جزاء وفاقاً﴾ أي : موافقاً لعملهم قال مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الكفر ولا عذاب أعظم من النار.
وقوله تعالى :﴿إنهم كانوا لا يرجون حساباً﴾ بيان لما وافقه هذا الجزاء أي : لا يخافون أن يحاسبوا. والمعنى : أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا أنهم يحاسبون.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣١
وكذبوا بآياتنا﴾ أي : بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وقيل : القرآن وقرأ ﴿كذاباً﴾ غير الكسائيّ بالتشديد أي : تكذيباً، قال الفراء : وهي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال. وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله. وقرأ الكسائيّ بالتخفيف مصدر كذب بدليل قول الشاعر :
*فصدقته وكذبته ** والمرء ينفعه كذابه*
قال الزمخشري : وهو مثل قوله :﴿أنبتكم من الأرض نباتاً﴾ (نوح : ١٧)