يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً، أو تنصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا ؛ لأنه كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فبلغ فيه أقصى جهده.
﴿وكل شيء﴾ أي : من الأعمال وغيرها ﴿أحصيناه﴾ أي : ضبطناه، وقوله تعالى :﴿كتاباً﴾ فيه وجهان أحدهما : أنه مصدر في موضع إحصاء والإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط، ثانيهما : أن يكون حالاً بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ كقوله تعالى :﴿وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾ (يس : ١٢)
. وقيل : أراد ما تكتبه الملائكة الموكلون بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة لقوله تعالى :﴿وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين﴾ (الإنفطار : ١٠ ـ ١١)
والجملة اعتراض.
وقوله تعالى :﴿فذوقوا فلن نزيدكم﴾ أي : شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات ﴿إلا عذاباً﴾ تسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، قال الرازي : وفي هذه الآية مبالغات منها لن للتأكيد ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله تعالى :﴿فذوقوا﴾ بعد ذكر العذاب، قال أبو بردة : سألت النبيّ ﷺ عن أشدّ آية في القرآن ؟
فقال ﷺ "قوله تعالى :﴿فذوقوا فلن نزيدكم إلا
٥٣٣
عذاباً﴾" أي : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب و﴿كلما خبت زدناهم سعيراً﴾.
ولما ذكر تعالى ما للكافرين أتبعه بذكر ما للمؤمنين فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣١
﴿إنّ للمتقين مفازاً﴾ أي : مكان فوز في الجنة.
وقوله تعالى :﴿حدائق﴾ أي : بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مفازاً بدل الإشمال أو البعض أو بيان له وقوله تعالى :﴿وأعناباً﴾ أي : كروماً عطف على مفازاً.
﴿وكواعب﴾ أي : جواري تكعب ثديهنّ جمع كاعب ﴿أتراباً﴾ أي : على سنّ واحد جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء وقيل : الأتراب اللدات.
﴿وكأساً دهاقاً﴾ أي : خمراً مالئة محالها وفي القتال ﴿وأنهار من خمر﴾ والدهاق المترعة ودهق الحوض ملأه حتى قال : قطني، وقال ابن عباس : مترعة مملوءة. وقال عكرمة : صافية.
﴿لا يسمعون فيها﴾ أي : الجنة في وقت ما عند شرب الخمر وغيره من الأحوال ﴿لغواً﴾ أي : لغطاً يستحق أن يلغى بأن يكون ليس له معنى، وقوله تعالى :﴿ولا كذاباً﴾ قرأه بالتخفيف الكسائي وبالتشديد الباقون، أي : تكذيباً من واحد لغيره بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر.
﴿جزاء من ربك﴾ أي : المحسن إليك بما أعطاك جزاهم بذلك جزاء. وقوله تعالى :﴿عطاء﴾ بدل من جزاء وهو اسم مصدر وجعله الزمخشري منصوباً بجزاء نصب المفعول به، وردّه أبو حيان بأنه جعل جزاء مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي ﴿إنّ للمتقين﴾ قال : والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه لا ينحل لحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافاً ﴿حساباً﴾ أي : كافياً وافياً يقال : أحسبت فلاناً أي : أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة أي : عطاء كثيراً، وقيل : جزاء بقدر أعمالهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ﴿رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن﴾ برفع رب والرحمن وابن عامر وعاصم بخفضهما والآخران بخفض الأول ورفع الثاني.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣٤
أما رفعهما فمن أوجه : أحدها : أن يكون رب خبر مبتدأ مضمر أي : هو رب والرحمن كذلك، أو مبتدأ خبره لا يملكون، ثانيها : أن يجعل رب مبتدأ والرحمن خبره، ولا يملكون خبراً ثانياً أو مستأنفاً، ثالثها : أن يكون ربّ مبتدأ والرحمن نعته، ولا يملكون خبر رب. رابعها : أن يكون رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثانٍ ولا يملكون خبره، والجملة خبر الأوّل، وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفش، ويجوز أن يكون لا يملكون حالاً وتكون لازمة.
٥٣٤
وأما جرّهما فعلى البيان والنعت أو يجعل رب السموات تابعاً للأوّل والرحمن تابعاً للثاني، وأما جرّ الأوّل فعلى التبعية للأوّل. ورفع الثاني، فعلى الابتداء والخبر الجملة الفعلية وهي لا يملكون أي : الخلق. ﴿منه﴾ أي : من الله تعالى ﴿خطاباً﴾ والضمير في لا يملكون لأهل السموات والأرض أي : ليس في أيديهم ما يخاطب به الله، ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرّف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه أولا يملكون أن يخاطبوا بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه.