وقوله تعالى :﴿يوم﴾ متعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون ﴿يقوم الروح والملائكة﴾ وقوله تعالى :﴿صفاً﴾ حال أي : مصطفين، والروح أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفاً وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثلهم، وقال الشعبي : هو جبريل عليه السلام، وقيل : ملك موكل على الأرواح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفاً وحده.
وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم : الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم، وقال الحسن رضي الله عنه : هو بنو آدم ورواه قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال : هذا ما كان يكتمه ابن عباس، وقيل : هو جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام. وقيل : أرواح بني آدم، وقال زيد بن أسلم : هو القرآن، وقرأ ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾ (الشورى : ٥٢)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣٤
وإذا كان هؤلاء ﴿لا يتكلمون﴾ وهم من أفضل الخلق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه تعالى لا يملكون التكلم، فما ظنك بمن عداهم من أهل السموات والأرض، ويجوز رجوع الضمير للخلق أجمعين.
﴿إلا من أذن له﴾ أي : في الكلام إذناً خاصاً ﴿الرحمن﴾ أي : الملك الذي لا تكون النعمة إلا منه ﴿وقال﴾ قولاً ﴿صواباً﴾ في الدنيا أي : حقاً من المؤمنين والملائكة وهما شريطتان : أن يكون المتكلم مأذوناً له في الكلام، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى. لقوله تعالى :﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ (الأنبياء : ٢٨)
وقيل : القول الصواب لا إله إلا الله.
﴿ذلك﴾ أي : المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلوّ منزلته ﴿اليوم الحق﴾ أي : الكائن لا محالة وهو يوم القيامة ﴿فمن شاء اتخذ إلى ربه﴾ أي : المحسن إليه ﴿مآباً﴾ أي : مرجعاً وسبيلاً لطاعته ليسلم من العذاب في ذلك اليوم، فإنّ الله تعالى جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله تعالى.
﴿إنّا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿أنذرناكم﴾ أي : يا كفار مكة ﴿عذاباً قريباً﴾ أي : عذاب يوم القيامة الآتي وكل آت قريب، وقوله تعالى :﴿يوم﴾ ظرف لعذاباً بصفته ﴿ينظر المرء﴾ أي : كل امرئ سواء كان مؤمناً أو كافراً نظراً لا مرية فيه ﴿ما﴾ أي : الذي ﴿قدمت يداه﴾ أي : كسبه في
٥٣٥
الدنيا من خير وشرّ، وقال الحسن رضي الله عنه : أراد بالمرء المؤمن أي : يجد لنفسه عملاً، وأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً فيتمنى أن يكون تراباً، ولأنه تعالى قال :﴿ويقول الكافر﴾ فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن وقيل : هو الكافر لقوله تعالى :﴿إنا أنذرناكم﴾ فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذمّ. ومعنى ﴿ما قدّمت يداه﴾ من الشرّ كقوله تعالى :﴿ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك﴾ (الحج : ٩ ـ ١٠)
وما يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت أي : ينظر أي شيء قدّمت يداه أو موصولة منصوبة بينظر يقال : نظرته بمعنى نظرت إليه والراجع إلى الصلة محذوف.
وقال مقاتل رضي الله عنه : نزل قوله تعالى :﴿يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه﴾ في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و ﴿ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً﴾ في أخية الأسود بن عبد الأسد وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم عليه السلام بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ورأى ما هو فيه من الشدّة والعذاب تمنى أنه كان بمكان آدم فيقول ﴿يا ليتني كنت تراباً﴾. قال : ورأيته في بعض التفاسير.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣٤
قال البغويّ : قال أبو هريرة رضي الله عنه فيقول التراب : لا ولا كرامة لكل من جعلك مثلي. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ثم يقال للبهائم والطير : كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر ﴿يا ليتني كنت تراباً﴾ أي : فلا أعذب وقيل : معنى ﴿يا ليتني كنت تراباً﴾ أي : لم أبعث. وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ : عودوا تراباً فيعودون تراباً فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم :﴿يا ليتني كنت تراباً﴾، وقال ليث بن أبي سليم مؤمنو الجنّ يعودون تراباً. وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهما : مؤمنو الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها، والذي عليه الأكثر أنهم مكلفون مثابون ومعاقبون كبني آدم، وقيل : يحشر الله تعالى الحيوان غير مكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يردّه تراباً فيودّ الكافر حاله.
وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة عمّ سقاه الله تعالى برد الشراب يوم القيامة" حديث موضوع.
٥٣٦
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٣٤


الصفحة التالية
Icon